Friday, August 31, 2012

أفكار - بقلم د. مصطفى نور الدين



اللاوعى وما بعد البيولوجيا




هو سؤال قديم حول الفعل الإنسانى، طرحته البشرية عبر العصور فى صيغة "الجبر والاختيار" و "القضاء والقدر".. هل الإنسان هو مالك القرار وصاحب الفعل، أم أن هناك قوانين طبيعية ونفسية واجتماعية تلزمه بالتصرف على هذا النحو دون أن تترك له خيارًا آخر، فهو يعمل على نحو قسرى، وأفعاله تحتمها قوانين مقدرة سلفًا مثلها مثل القوانين الطبيعية التى تحتم سقوط الأمطار وهبوب الرياح؟
هل اللاوعي هو المحرك الخفي لسلوك الإنسان؟ وهل التحليل النفسي الذي يؤكد على تلك الفكرة علم يؤخذ بنظرياته كحقيقة علمية؟
هذا السؤال يجيب عليه علماء دراسة العقل البشري والأعصاب بشأن اللاوعي ودوره في السلوك، فبرغم كل ما قيل من أن التحليل النفسي ليس بعلم والإقرار بذلك من قبل بعض من كبار ممثليه، انبرى بعض العلماء المتخصصين في دراسة المخ والجهاز العصبي بالدفاع عن أطروحة التحليل النفسي بشأن اللاوعي ودوره في توجيه فعل الإنسان رغما عنه.
ففي عام ١٩٩٢ ظهرت كتابات مهمة لعالم بيولوجيا الجهاز العصبي "جيرالد إيدلمان" وهو الحائز على جائزة نوبل للطب في 1972، ويدافع إيدلمان عن اللاوعي بأطروحات "فوق علمية" إن جاز التعبير بل و "ميتا – بيولوجية" أي "ما فوق الحيوية".. وهو بأطروحاته يفتح ثغرة في جدار العلوم الصلبة ليدخل منها التحليل النفسي ليس ليناقشه وهل هو علم أم لا وإنما ليقول دون تردد إن اللاوعي موجود وله محله في العقل البشري وبالتالي له تأثير على سلوك الإنسان.
يقول إيدلمان: "تراكمت نتائج عديدة متعلقة بأمراض العصاب وكذا في التنويم المغناطيسي وفي زلات اللسان لتبرهن على صحة معظم الأطروحات الأساسية المتعلقة باللاوعي التي قالت بها المدرسة الفرويدية وهي الأطروحات التي تمنح اللاوعي دورًا حاسمًا في التأثير على فعل الإنسان.. إذ بحسب فرويد هناك عناصر مدفونة في اللاوعي يمكن أن تتجلى في فعل واعٍ.. فبرغم أنه من الممكن النظر لفرويد على أنه ليس عالما بالمعنى الدقيق للكلمة فإنه من أوائل من توصلوا للكشف عن اللاوعي وتأثيره على السلوك الإنساني".
ويضيف :"إن النتيجة النهائية التي توصلت إليها ويمكن تعميمها على كل العلوم التي تهتم بالعقل تتلخص في أنه بثبوت أفعال وقعت تحت تأثير اللاوعي فالنتائج التي نصل إليها عن طريق استبطان الوعي (أي توصل الوعي لمشاهدة ما يدور في العقل) عرضة لأخطاء كبيرة.."  ذلك يعني أن الوعي لا يكشف لنا الحقيقة كاملة.
ويتواصل التأكيد على تلك الفكرة من قبل العديد من العلماء ومن أهم هؤلاء الدراسين للعقل انتشر اسم "انطونيو دامازيو" الذي يقدم براهينه على الأطروحة المؤيدة لوجود اللاوعي وتأثيره على سلوك الإنسان.
يقول دامازيو: "إن أفكارنا وذكرياتنا نتاج عملية طويلة لسنا واعين بها، فنحن نعرف أن العقل البشري واقع تحت تأثير عوامل غامضة وملغزة كان القدماء ينسبونها لآلهة أو لقدر.. وهذه القوى الغامضة تم إعادة اكتشافها في مطلع القرن العشرين في الأعماق الغائرة في العقل بحسب النموذج الذي ينسب عادة لسيجموند فرويد، وهذه الأعماق الغائرة بحسب تلك النظرية تعود لتجارب مر بها الفرد في بدايات حياته".
ويضيف دامازيو عبارة تدهش لصدورها عن عالم يستند على التجربة المعملية حيث يقول: "إن البراهين على وجود اللاوعي لم تتوقف عن التراكم طوال هذا القرن بما في ذلك من حقول العلوم التي لا تنتمي لمدرسة فرويد أو يونج.. فكل من علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإدراكى الحسي واللغويات وعلوم دراسة العقل كلها تمدنا بدلائل لا يمكن تكذيبها عن أهمية ما ليس بوعي على العقل الإنساني وعلى السلوك وعلى الكيفية التي يعمل بها اللاوعي".
ويذهب دامازيو إلى أبعد من غيره من المتخصصين في دراسة العقل بالقول بأن "عالم اللاوعي يجد جذوره في قلب نظام الخلايا العصبية التي تشكل دعامة الذاكرة الشخصية، وأن التحليل النفسي هو وسيلة لمعاودة اكتشاف شبكة الروابط النفسية المتداخلة والمتشابكة بقلب سجل تاريخ الذاكرة الشخصية".
الأكثر غرابة فيما يقوله انطونيو دامازيو هو ما يخص الوعي الأخلاقي لدى الإنسان، حيث يقول: "إن النظام اللاواعي لجسد الفرد يخلق بداية الهوية أو الأنا التي تسمح بتطور كل من الأنا المركزية وكذا وعي جنيني وأن كل أولئك بدورهم يسمحون بتكوين أو تشكيل السيرة الذاتية للأنا ثم يأتي بعدها تشكل الوعي الممتد، وفي نهاية السلسلة يقود الوعي الممتد إلى الوعي الأخلاقي".
من حقنا هنا أن نتساءل: هل هذا الكلام علمي حقًا أم هو تخيل محض ومحض تخيل؟ إذ كيف يمكننا التأكد من هذه العملية؟ وهل وعينا الأخلاقي مسألة تخص علم الأحياء "بيولوجية"؟
المشكلة التي نقابلها مع مثل تلك الفكرة ناجمة في جانب منها في أن علوم دراسة الأعصاب تستخدم مصطلحًا أو مفهومًا محمًّلا بالعديد من التفسيرات والأفكار في الفلسفة والديانات والتحليل النفسي.. فتحديد المقصود باللاوعي يختلف من فكر لآخر ومن حقل معرفي لغيره، وهذا الخلط هو ما يجسده الخلاف بين العلماء المتخصصين في دراسة العقل والأعصاب أنفسهم ويعكس تعقد القضية.. والتوقف عند "جوزيف لودو" وهو أحد كبار العلماء المعارضين لتصور دامازيو سيوضح رؤية أخرى وتفسيرا آخر في داخل ذات الحقل المعرفي الذي يفترض أن منهجه العلمي يقود إلى اتفاق بين الجميع ولكنه فيما يخص تلك القضية لا يتحقق.
يقول جوزيف لودو: "هل لو تمكن شخص من حل مشكلة الوعي سيقود ذلك لفهم كيف تسلك المورِّثات (من الكلمة المفردة: المورٍّثة) أو "الجينات" أي عنصر الوراثة التي تشكل الوحدة الأساسية للوراثة في الكائن الحي؟" ويجيب "لودو" بالنفي.. ذلك لأن المشكلة التي يتناولها علم السلوك المستند على دراسة العقل هي: كيف عملت عقولنا لأن نكون ما نحن عليه، فالكثير من أفكارنا ومشاعرنا وأفعالنا تجري بصورة تلقائية ولا يحيط الوعي بها عند قيامه بها إلا في لحظة حدوثها".
وعند هذا المستوى من التعرض لمسألة الفعل الإنساني يبدأ خلاف جوزيف لودو مع التوجه الذي يتبناه التيار المعارض من أمثال "إيدلمان ودامازيو" لأنه يضع بعض التحفظات بشأن التحليل النفسي.
يعتبر جوزيف لودو أن لغز الشخصية يتطلب التوصل لحل غموض الوظائف اللاواعية للعقل بشكل جوهري، غير أنه يضيف تعريفه الخاص لمفهوم اللاوعي حتى يستبعد أي خلط وسوء فهم بما يعنيه بالمفهوم المعقد.
يقول "لودو": بأن اللاوعي مفهوم غير واضح في معناه فالبعض حينما يستخدمه يقصد به الذكريات المؤلمة التي تم دفنها ونسيانها أي الاستخدام الذي يقصده سيجموند فرويد.. في حين أن البعض عند التطرق لمفهوم اللاوعي يقصد تلك الحالة التي يمر بها الإنسان في لحظة الموت العيادي.. وغيرهم يقصدون حالة فقدان الوعي بعد تلقي ضربة على الرأس أو لأنه في حالة ثمل بعد المبالغة في تناول مشروبات روحية.
وهنا يحدد لودو أن كل تلك الحالات ليست هي ما يقصده باللاوعي، فاللاوعي بحسب ما يعنيه هو قيام العقل بالعديد من الأشياء دون أن يكون الوعي محيطًا بها.
برغم هذا الموقف الواضح في نظرية لودو فإنه يترك الباب مفتوحًا للتفسير الذي يقدمه التحليل النفسي في أطروحات فرويد، فيقول بأنه: بالفعل "هناك مظاهر ضمنية وأخرى واضحة للأنا"، فما نعرفه عن أنفسنا يندرج في المظاهر المعلنة الواضحة في حين ما يظل خفيًّا عن الوعي بالذات يدخل في المظاهر الضمنية، وذلك يعني بقول آخر إن دراسة الذاكرة الإنسانية تؤكد أن آليات المخ تقوم بالتذكر بشكل واضح وصريح في حين أنها تقوم أيضًا بتخزين معلومات بشكل ضمني أي بلاوعي، وكل من العمليتين في تخزين المعلومات تشكلان الأنا وتحافظان على بقائه، فطريقة الإنسان في السير والكلام مثلًا هي وظائف نقوم بها بناء على الخبرات السابقة ولكنها تحدث ساعة وقوعها خارج نطاق الوعي.
فالالتقاء هنا يتم مع التقسيم الذي قال به فرويد للوعي بمرتبتين: أي مرحلة "ما قبل الوعي" وهي في متناول الإدراك ولكن ليس بشكل فوري واللاوعي وهو يستعصي على الإدراك.. وبرغم شبه التوافق بين مفاهيم فرويد و لودو فإن الأخير يشدد على أن مفاهيم فرويد ليست هي ما يقصده حتى ولو كانت المصطلحات هي ذاتها لأن المضمون الذي تحمله يختلف لدى كل منهما.
نحن أمام اختلاف بين علماء دراسة الأعصاب والعقل البشري فيما يخص حرية الفرد في سلوكه ومحاولة التقرب مما يقول به التحليل النفسي بشأن دور اللاوعي الحاسم، وسوف تتعقد تلك المسألة أكثر برأي مدارس أخرى في العلوم الحيوية ودراسة الأعصاب حينما تنظر للعامل البيولوجي كعامل أساسي في توجيه السلوك أي تأثير العامل الوراثي كعامل حتمي ونفي كل دور لما يقول به من يمنحون اللاوعي الدور الحاسم.. وسوف نناقش تلك المسألة في الحلقة التالية.

بقلم د. مصطفى نور الدين
العدد الرابع - يوليو 2012
مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة 

1 comment:

  1. تحياتي ياصاحبي مقال ثري وجميل
    د- احمد سماحه

    ReplyDelete