Friday, June 29, 2012

قصة قصيرة - بقلم أحمد الخميسى


جلباب مواطن 
أحمد الخميسي

بالطبع كان محمود حزينا على سعد ، أليس أخوه ؟ والظافر لا يخرج من اللحم . أيضا سعد غلبان ، طول عمره غلبان . كوخ على طرف غيط الحاج أبواسماعيل وبس . لا امرأة ولا عيل ولا حاجة . يخدم ساعتين بالنهار في أرض الحاج مقابل بقائه في الكوخ ، وبعدها يسرح على رزقه ، مطرح ما يلاقي لقمة يمشي . الله يرحمك ياسعد . الأعمار بيد الله ، هو الذي يعطي وهو الذي يسترد ، المشكلة كانت في جلباب خليفة

في الشهرين الأخيرين مرض سعد بشدة . سخنوا له نعناع وسقوه،ثم حلبة حصى ، وطحنوا له ثوم ، لكن لم يتحسن ، أخيرا حن عليهم الحاج أبو اسماعيل بفرخة ، وقال لهم " أظن بعد كده لازم يختشي ويفوق". ذبحوا له الفرخة والتهمها سعد في دقيقة كأنما بعث ، وشرب شوربتها ، لكن بعدها بساعة واحدة بس عاد يئن كما من قبل ويعض بأسنانه على شفتيه المشقوقتين المتورمتين ويضغط على بطنه وهو يتلوى على الأرض . نقلوه لعيادة المركز . فحصه الدكتور وقال " يحتاج عملية في مستشفى كبيرة . لازم يروح مصر". 
أخوه يتركه يموت يعني ؟
دار محمود ولف حتى جمع أجرة السيارة ومصاريف المشوار شوية من كل نفر ، بالسلف والدين . وفي الليلة التي سبقت نقله لمصر قالت له زوجته " أنت يا محمود ح تنقل أخوك بجلابيته اللي عليه ؟ في مصر إن  لقوه وسخ كده يمكن ما يدخلهوش عندهم ". تطوع خليفة جارهم وهو يشرب الشاي بإعارتهم جلباب أزرق من عنده ، وأقسم بالله العظيم ألا يردوه إلا بعد رجوع سعد بالسلامة . شكره محمود بتأثر واعتذر له " معلش ياخليفة عشان مايصحش يظهر قدام دكاترة مصر بجلابية مقطعة ، ولامؤاخذة وسخة " ، ورد خليفة بأريحية " وهي الجلابية ح تطير يعني ؟
في الصباح أقاموا سعد على حيله بالكاد ، يمسكوه من ناحية يفرط من ناحية ، في الآخر ألبسوه الجلباب وهو يتطوح وشفتاه ترتجفان كأنما يريد أن يقول شيئا . ومع تعب المشوار إلي قصر العيني إلا أن محمود ارتاح بعد أن سلمه لهم ، وفرشوا له  مؤقتا مرتبة على بلاط الطرقة حتى يجدوا له سريرا . وانحنى محمود عليه يودعه زاعقا في أذنه " أنت زي الفل ياسعد ، ما تقلقش " ، وقبل أن يغادر أوصى ممرضا أن يتصل بهم عند الضرورة
لم ينقض الأسبوع إلا وكان محمود قد تلقى خبر وفاة سعد حتى قبل أن يجدوا له سريرا . دمعت عيناه وهز رأسه " الله يرحمك يا سعد . عمرك ما أذيت حد ". قالت  زوجته " روح لهم مصر خليهم يدفنوه في مقابر الصدقة ، لأن مافيش فلوس لا نجيبه ولا نعمل له عزاء ". تساءل محمود مجرد تساؤل " يعني ما يندفن جنب أبوه وأمه ؟". مصمصت شفتيها " يعني إحنا معانا ومش عاوزين نجيبه ؟ نعمل إيه بس يا محمود ؟". أضافت "ماتنساش تجيب معاك جلابية خليفة

في الفجر توكل محمود على الله وشق طريقه إلي مصر . ووقع في المستشفى طلبا  بدفن سعد في على حساب الحكومة ، وقال له الموظف " نكتب حيث أنه معدم ". ولق محمود الكلمة في رأسه وقال برجاء " ممكن نقول كلمة تانية غير معدم ؟ ". نهره الموظف " لاء . معدم "


انتهى من الإجراءات ، وذهب يلقى نظرة أخيرة على سعد . أمسك بيده المدلاة بجواره واعتذر له " ماتزعلش يا سعد ، مش بإيدي . وكتاب الله مش بإيدي" . ثم انصرف بسرعة ليستفسر عن متعلقات سعد فأجابه رجل من وراء شباك " أي متعلقات ؟ " . قال " كان جاي بجلابية مش بتاعتنا ولازم نردها " . نظر الرجل في دفتر أمامه وقال " ما عنديش شيء متسجل باسم سعد ، لا جلاليب ولا فلوس ولا أي حاجة " . ممرض ما كان واقفا يدخن قال لمحمود " كنت سألت قبل الغسل ، يمكن الجلابية اتقطعت ولا اترمت ". رجل عجوز ببيجامة واضح أنه في المستشفى من زمان اقترب منه وهمس له " إطلع للمدير في الدور الثاني واشتكي . حقك لازم تآخده " . ظل ساعة أمام باب حجرة المدير حتى دخل ، ووقف أمام المدير وقال مرتبكا ما بين الحزن وما بين الخجل من أن الموضوع صغير " سيادتك أخويا جه المستشفى بجلابية ومات ومحتاجين الجلابية مش بتاعتنا ". قال المدير باستغراب " جلابية إيه ؟ الكلام ده في الأمانات مش هنا ". فقال موضحا " سيادتك أنا سألت قالوا مافيش . ولامؤاخذة أنا عارف إنه جه بجلابية ". قلب المدير شفته قائلا " يعني عاوزني أسيب شغلي وأقعد أشوف مين ضاعت له جلابية ومين راح له لباس؟ الناس دي إيه ؟". وأشار برأسه إلي الباب " تفضل"، فتراجع محمود بظهره حتى خرج وهو يردد " لا مؤاخذة

هبط على السلالم ليغادر المبنى . حتى لو سكت خليفة الأيام القادمة فلابد أنه سيطالب بحقه بعد ذلك . وخليفة هو الآخر أجري على باب الله ، وصاحب حق . عندما اقترب من البوابة سمع صيحات هادرة وضوضاء ، وخرج إلي الشارع فشاهد بحرا من البشر الغاضبين ، ناس يحملون يافطات ويزعقون ، وناس محمولين على الأكتاف يهتفون بقوة ، وسيارات شرطة ، وبنات تصرخ ، وعيال تجري ، وشابة مرمية على الرصيف. تأمل المشهد بدهشة ، واندفع شاب من خلفه فأسقطه على الأرض . نهض وتلفت حوله ، ثم مشى بسرعة في اتجاه محطة القطارات
   
ركب قطار الصعيد ، ولاحقه مفتش التذاكر، فهبط في الفيوم . الليل في أوله ، و الجوع والتعب يلحان عليه . اشترى رغيف فول وتمشى به في ميدان المحطة يترقب وصول القطار التالي . في الميدان ارتفع صوان ضخم مضاء بالكلوبات ، ومن داخله ارتفعت الأصوات عبر ميكروفونات . تمهل عند المدخل يمضع اللقمة ، ثم مال على عجوز أمام نصبة شاي " إيه ده ؟ " . أجابه الرجل وهو يشطف كوبا في طست ماء " المرشحون للرئاسة " . استفسر " رئاسة إيه ؟ " . رد العجوز باستغراب " ح تكون رئاسة إيه يعني ؟ رئاسة مصر ". من بعد الذهول أحس محمود برهبة من وجوده في مكان كهذا ، ثم أدار عينيه فيمن حوله ، فوجد الناس واقفين دون خوف ، فأرسل بصره إلي داخل الصوان ، ورأي رجلا يهبط من المنصة وآخر يصعد إليها بنشاط ، ثم بدأ الرجل حديثا طويلا عن الحرية التي طال انتظارها ، وهذه فهمها محمود على العموم ، ثم تحدث عن حقوق الإنسان ، وهذه فهم منها محمود كلمة " حقوق " وحدها ، و"الإنسان " وحدها ، ثم وصل الرجل في حديثه إلي كلمة غريبة لم يسبق لمحمود أن سمعها ، إما منبراية ، أو لبرانية ، أو ليبرالية . ولأن الكلمة صعبة في النطق والفهم فقد عطلت متابعته للخطبة ، ولهذا قفز موضوع الجلابية ثانية إلي رأسه ، وقال لنفسه مادام الرجل قد يصبح رئيسا للبلد كلها بحري وقبلي فلابد أن بوسعه حل موضوع صغير لن يكلف الدولة سوى تطبيق العدل . هكذا شق محمود صفوف البشر حتى وجد مكانا لقدميه قرب الخطيب . وما أن أنهى الرجل كلمته وهبط وسط تصفيق أنصاره حتى التصق به محمود وهو يجري خلفه ويقول له " موضوع صغير أعرضه على سيادتك ياريس. موضوع " . توقف الرجل ووضع يده على كتف محمود باهتمام ، فقال له " فيه جلابية في قصر العيني مش عارفين راحت فين ؟ بتاعة خليفة مش بتاعتنا ولازم نردها ". دهشة مكتومة عبرت كسحابة متمهلة وجه الرجل ثم التفت إلي معاون بجواره قائلا " إدي له كارت الحزب "

. وواصل الرجل طريقه إلي خارج الصوان . مرشح آخر تكلم طويلا عن أن سبب كل الكوارث التي حلت بمصر هو تحديدا انعدام الأخلاق ، انهار الاقتصاد لأن التجار بلا خلق يرفعون أسعار السلع ، انهار التعليم لأن المدرس بلا خلق همه أن يربح من الدروس الخاصة ، انهارت الأسرة والعائلة لأنها تسمح لبناتها بالتعري والسباحة بمايوهات بكيني ، وعندما أنهى حديثه لاحقه محمود وشرح له موضوع الجلابية فقال له " تعالي لنا المقر بتاعنا في الجيزة وبإذن الله تخرج راضيا ". أخيرا صعد إلي المنصة بهدوء شخص على ملامحه هيبة العلم ، وتكلم طويلا عن الدستور والبرلمان والانتخابات النزيهة والدولة المدنية . وما إن هبط  الرجل من على المنصة حتى شرح له محمود المسألة ، لكن بفتور وبصوت هامد ، فقال له " أهم حاجة دلوقت الدستور وبعدها كل شيء ح يمشي مضبوط ". وكان تعب اليوم الطويل كله قد حل في قدمي محمود ، فلم تعد لديه حتى القدرة على الرجاء ، رغم أنه لم يفهم ماهو تحديدا الذي سيمشي مضبوط في المستقبل . ومع ذلك ضغط على نفسه مستفسرا " يعني فيه أمل ياريسنا ؟ " ، لكن الرجل لم يسمعه
 
انفض الصوان ، وأعتم الميدان بعد إطفاء الكلوبات ، وركب محمود القطار وساعدته العتمة في الزوغان من المفتش فلم يهبط إلا في المنيا . كانت الدنيا ليل وهو يدخل القرية ، ويتذكر وهو في طريقه للبيت أخاه سعد ، وأمه ، والحياة  الشاقة التي خلت من الفرح وانصبت كلها في العمل الشاق

تطلعت إليه زوجته طويلا وهو يدخل ، بإشفاق ، وارتمى على أقرب موضع وفرد ساقيه أمامه ، من دون أن ينطق بحرف . زوجته هي الأخرى لم تقل كلمة ، اختفت وعادت بكوب شاي ولقمة وكسرة جبن . وبعد قليل سألته " جبت الجلابية ؟ " . هز رأسه بصمت أن لا . قالت بتحسر " وخليفه ذنبه إيه ؟ " . قال " هي ح تروح فين يعني ؟


كان متعبا من المشوار ومن القطار ومن منظر أخيه بوجهه الأصفر ومن ضوضاء الصوان ، وتمنى لو غرق في النوم وهو مكانه . لكنه أحس بحاجة شديدة للهواء  وبأنه يريد أن يتكلم مع من يفهمه ، فخرج من الدار ووقف مستندا بظهره للجدار. يطوقه صمت معتم على الأرض ، وفوقه سماء شاسعة منيرة . تطلع لأعلى ، ونفخ في الهواء بألم " يارب . أنت اللي بتعطي الحياة وأنت اللي بتآخدها . لكن الجلابية مش بتاعتنا ، ولازم نردها ، يارب ".


بقلم أحمد الخميسى
مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة
يونيو 2012