Wednesday, April 18, 2012

ثورة الرعاع والحرافيش بين التاريخ والمؤرخين


 بقلم د.أحمد الصاوي


لطالما رمي الشعب المصري بأنه على مر تاريخه السرمدي أدمن الانصياع للحكام وبطشهم في "ذلة"  لا نظير لها في تاريخ الإنسانية اللهم إلا من هبات أو انتفاضات عارضة لا تلبث أن تنطفئ جذوتها بعد أيام قلائل دون أن تؤدي لإزالة ملك أو عزل حاكم. 

ويكاد هذا الاتهام أن يكون من المسلمات التي تحكم تفكير الساسة بل والمؤرخين عند تناولهم أمر الثورات في بر مصر والحقيقة أنه ليس أكثر من "وهم" غذته عوامل الإحباط واليأس من تدارك انهيار الأوضاع في البلاد في الأمد المنظور لحياة الإنسان الفرد بقدر ما كرسته مناهج كتابة التاريخ ليس في عصورنا الوسطى فحسب بل وفي الدراسات الأكاديمية والكتابات السيارة بعدما أصبحت الكتابة في التاريخ ,إلى حد بعيد, مهنة من لا مهنة له في العقود الأخيرة.

وإذا كانت بعض الدراسات التاريخية الجديرة بالثقة قد تناولت طرفا من أحداث الهبات والثورات التي عرفتها "مدينة القاهرة" لأسباب اقتصادية بشكل رئيس فإن كتب التاريخ ما برحت حافلة بالحديث عن عشرات مثلها حدثت ظاهريا لأسباب أخرى قد يراها البعض عارضة أو فئوية أو حتى غريبة ومستهجنة.      

ولا نريد هنا أن نحمل على "كتبة التاريخ" من المعاصرين بأكثر مما يحتملون إذ الحقيقة أيضا أن جانبا من المسئولية يقع على عاتق المؤرخين في العصور الوسطى ومناهجهم في تقييد الأحداث والسير التاريخية.

ومن نوافل القول هنا أن جل المؤرخين , ولا نقول كلهم, جاءوا من صفوف النخبة المدنية بل والعسكرية أيضا وعدد لا بأس به كان من مجتمعات أخرى وهو ما أضفى على عملهم أنواعا من الإهمال لشأن عامة الشعب أو الاستخفاف بهم ونلمح علامات هذا الاحتقار الاجتماعي فيما وصفوا به عامة الشعب من ألفاظ كالدهماء والزعار والعامة إلى آخره من مسميات تنم عن موقف اجتماعي مترفع ولا ننسى على سبيل المثال أن مؤرخا شهيرا مثل "ابن تغري بردي" وهو من أبناء المماليك كان يستخدم في كتابه النجوم الزاهرة مصطلح " أولاد الناس " للإشارة لأبناء المماليك وحدهم دون سواهم من "الناس".

وزيادة على ذلك فقد نظر المؤرخون القدامى لعملهم باعتباره محض سرد إما لسير الحكام أو في أفضل الأحوال للأحداث السياسية الكبرى ناهيك عن أن منهم من حرص على ألا يمس صورة الحاكم نفاقا أو حدبا وولاء .

وبالجملة وبغض النظر عن الدوافع الاستعلائية أو الانتقائية المنهجية لأحداث التاريخ فقد كان ينظر للثورات والهبات الشعبية باعتبارها أحداثا عارضا طالما لم تفض لتغيير جوهري في أوضاع الحكم أو الحكام فضلا عن الاقتصار على سرد ما قد يقع منها في إطار القاهرة وحدها أما ما كان يحدث في الأقاليم فغالبا ما وصف بأنه تمرد من الأعراب أو غيرهم من الفئات.

ولكن ذلك كله لا يعفي كتبة التاريخ من مسؤولياتهم المنهجية إذ رغم المنهجية التي تحكمت في كتابات مؤرخي العصور الوسطى تبقى بطون كتب التاريخ حافلة بإشارات لا تخفى على كل لبيب بالإشارة يفهم لثورات وانتفاضات شعبية قمعت بكل القسوة والبربرية وراح ضحيتها شهداء في وضح النهار.
وأظن , وبعض الظن إثم وبعضه ليس كذلك, أننا لو أحسنا التدقيق في النصوص التاريخية ولم نمر على بعضها مرورا عابرا أو انتقائيا لوجدنا عشرات من الوقائع الجلية والتي قد لا تحتاج لقراءة متعمقة لما هو بين السطور.

وزيادة على هذا وذاك فإنه من الضروري الواجب أن نخرج من إسار الصور النمطية التي نألفها في أيامنا تلك عن تعريف "الثورة" وقواها وآلياتها وقيادتها المنظمة وما إلى ذلك من معايير سياسية تفرضها الحداثة أو تمليها خطايا استلهام المدارس الأوربية في فهم التطور التاريخي للشعوب وهو أمر تجاوز الاسترشاد في أحوال كثيرة إلى شطط التقليد والمحاكاة غير المتبصرة بالفوارق المنهجية.
ونسوق هنا في حدود مقتضيات تحرير هذا المقال حدثا مخبئا بين ثنايا كتاب المؤرخ الكبير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي "السلوك في دول الملوك" ورغم أن ظاهر عنوانه أنه كتاب في التاريخ السياسي لدول الملوك وهو كذلك بدرجة رئيسة إلا أنه شأنه في ذلك شان كتابات المقريزي ,يحفل بإشارات عارضة ومكثفة لعدد من الهبات والثورات الشعبية .

ففي سرده لأحداث فترة حكم السلطان شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون وبالتحديد في يوم  الجمعة الموافق23 من شهر ذي القعدة من عام 770هـ يوضح أنه في صبيحة هذا اليوم تجمعت "الغوغاء من زعر العامة " بأراضي اللوق خارج القاهرة وكانت آنذاك من متنزهات القاهرة لا يسكنها أحد باعتبارها أراض يصلها فيضان النيل فتصير رخوة أو لوقا وكان تجمعهم "للشلاق" وهو في أغلب الظن نوع من رياضات القتال أو المنازلة التي يقبل الناس على مشاهدة أبطالها وحدث أن توفي أحد "المشالقين" وقت النزال فسمع بذلك والي القاهرة (السيد اللواء مدير أمن العاصمة) وهو "الشريف بكتمر" فأركب معه " الأمير علاء الدين علي بن كلفت الحاجب والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب" وقصد المشالقين ففروا منهم.

وحتى تلك اللحظة يبدو الأمر منطقيا ولا شبهة فيه لثورة أو شيء من هذا القبيل فقد فر المصارعون من مدير أمن العاصمة وأعوانه من "المباحث الجنائية" وهم المتهمون بقتل زميلهم أثناء النزال ولكن "بقي من هناك من النظارة" أي بلغة عصرنا لم يتزحزح الجمهور من (المدرجات) ويبدو أن بقاء هؤلاء دون أن يعتريهم الخوف الذي دفع المشالقين للفرار قد استفز الوالي والحاجبين فأردوا تفريقهم بالقوة على طريقة الأمن المركزي "فضرب منهم عدة بالمقارع ".

ورغم أن مصر لم تكن قد وقعت حتى تاريخه على اتفاقات حقوق الإنسان التي تمنع التعرض للعامة بالضرب لمجرد أنهم يشاهدون مباريات للمصارعة إلا أن تلك الواقعة أثارت غضبة الناس لامتهان والي القاهرة لكرامتهم الإنسانية وظل الأمر يتفاعل بين أهالي العاصمة حتى يوم الثلاثاء (ولم تكن هناك منتديات على الشبكة العنكبوتية) فأجمعوا أمرهم وخرجوا في مظاهرة أو حسب تعبير المقريزي " فتعصبت العامة" ووقفوا تحت القلعة حيث قصر السلطان ومقر الحكم معلنين احتجاجهم فلم يجبهم أحد فعادوا للتظاهر مرة أخرى في صباح الأربعاء "وهم يستغيثون ويصيحون بالشكوى من الوالي" ومن أسف أن المقريزي لم يكن معاصرا لتلك الأحداث وإلا لكان أورد لنا الهتافات التي أطلقت في تلك الاحتجاجات.

ولما رأت الحكومة إصرار العامة وأنهم قد يواصلون التظاهر لأيام أخرى خرج أليهم متحدث باسم الحكومة وأعلن لهم "أن السلطان يعزل عنكم هذا الوالي" ولكن الناس رفضوا تلك الترضية ورأوا ضرورة محاسبة الوالي والحاجبين ليس أمام قضاة المحاكم الشرعية أو المحكمة الجنائية الدولية ولكنهم " أبوا إلا أن يسلمه إليهم هو والحاجبين".
لقد أراد العامة أن ينفذوا حكما شعبيا تداولوا فيه من يوم الجمعة وهو القصاص من المعتدين وليس فقط مجرد عزلهم أو إيداعهم "سجن طره".

كانت هيبة الدولة هنا على المحك أو بالأحرى هيبة النخبة المملوكية المتحكمة في البلاد وثرواتها وهي ترى أن الشعب يوشك أن يفتك بأمير من "الناس" لم يفعل شيئا أكثر من ضرب بعض العامة بالمقارع وكان هذا الضرب حقا أصيلا للمماليك على الشعب.

وحدث أن الوالي تحرك راكبا إلى ديوان الحكم بالقلعة فاعترض المتظاهرون موكبه بالحجارة "فرجمته العامة حتى كاد يهلك".عندئذ لجأ مدير أمن القاهرة إلى الاصطبل حيث خيول المماليك (إدارة المركبات) وظل طيلة النهار محاصرا فيه والناس ترفض أن تبرح مكانها قبل أن تلقي القبض عليه والمفاوضات جارية إلى قرب العصر "وكلما أمروا أن يمضوا أبوا ولجوا "
.
ويظهر أن الوالي أخذته الحمية فاستعان بقوات من مماليك مسئول الاصطبل "الأمير بكتمر المؤمني آمير آخور" واللقب الأخير يعني المسئول عن الاصطبلات السلطانية وخرج من مكمنه المحاصر فيه لتفريق المتظاهرين بالقوة " فثارت العامة ورجمتهم رجما متداركا حتى كسروهم كسرة قبيحة".
فشل الهجوم ودحرت قوات الوالي ومعها مماليك الاصطبلات وأصبحت "شرطة القاهرة" عاجزة عن تدارك ثورة العامة أمام القلعة وعندئذ صدرت الأوامر للحرس السلطاني (الجمهوري!!) لتفريق المتظاهرين بالقوة الغاشمة "فركبت المماليك السلطانية و الأوجاقية وحملوا على العامة وقتلوا منهم جماعة وقبضوا على خلائق منهم".

وعلى طريقة المستبدين بالذهاب إلى "التأديب" بعد القمع نزعا للثورة من النفوس لم يكتف المماليك بضحايا التظاهرة تحت القلعة بل أردوا تأديب سكان العاصمة كلها لأن المظاهرات كانت حاشدة كما يبدو من وصف المقريزي.

جاء الانتقام شاملا ووحشيا ولعل القلم يعجز عن التدخل لإعادة صياغة ما جرى بذات الدقة والبلاغة التي حرر بها المقريزي الأحداث في يوم الأربعاء 28 ذي القعدة عام 770هـ إذ قال لا فض فوه " ركب الأمير ألجاي اليوسفي وقسم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك وأمرهم بوضع السيف في الناس فجرت خطوب شنيعة قتل فيها خلائق ذهبت دماؤهم هدرا وأودعت السجون منهم طوائف وامتدت أيدي الجند إلى العامة حتى أنه كان الجندي يدخل على حانوت البياع من المتعيشين ويذبحه ويمضي وحكى بعضهم أنه قتل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلا".

كانت ليلة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة "من ليالي السوء" والتعبير هنا للمقريزي فلما أصبح الخميس وبلغ السلطان ما جرى "أنكره" أي أدانه وشجبه وأمر السلطان شعبان بن حسين بالإفراج عن المسجونين ونودي بالأمان وفتح الأسواق ففتحت وتم تعيين الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني في ولاية القاهرة عوضا عن الشريف بكتمر.

أما بكتمر المؤمني أمير الاصطبلات السلطانية الذي فتح باب العنف  ضد المتظاهرين فقد "وبخه " السلطان وقال له "عجلت بالأضحية على الناس وتوعده" أي أنه استبق عيد الأضحى بقتل الناس فما كان من بكتمر إلا أن "رجف فؤاده ونحب قلبه وقام فلم يزل صاحب فراش حتى مات".
حسنا مات بكتمر في سريره أو حتى في سرير مستشفى السجن أو ليس اليوم أشد شبها بالبارحة مما نتخيل.

أو لم نقل يخطئ المؤرخون أما التاريخ فلا يفعل.


بقلم دكتوراحمد الصاوى
العدد الأول - إبريل 2012

مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة 

Sunday, April 15, 2012

من كتاب يصدر قريباً بعنوان " بيكاسو وفن المستعربين الأندلسيين"




شاكر لعيبى
في التثاقف التشكيليّ



بيكاسو والخزف الأندلسيّ 




بقلم شاكر لعيبي


يحتاج دين بيكاسو لبعض المواضيع الأثيرة في خزف بلنسية، الدين المعروف من طرف دارسيه اليوم إلى بعض التشديد والمزيد من الفرضيات.
بقي خزف بلنسية موصولاً بالخزف الإسلامي والمتوسطي الذي ظل يمارس تأثيره حتى في فترة ما يسمى بالاسترداد، أي الزوال الكامل للحكم الإسلامي، ومثال هذا الخزف (طبقٌ عليه رسم قلعة وطيور وشخصيات نسائية) من باترنا (مقاطعة بلنسية)، القرن الثالث عشر- الرابع عشر (برشلونة، متحف الخزف، رقم الجرد
Inv. 20090)، ورغم أنه من المنتوجات البلنسية اللاحقة لفترة الغزو المسيحي للأندلس، فإننا نجد أن الأشكال الزخرفية المسماة "القوطية- المدجَّنة" تتمازج مع الزخارف ذات التأثير المشرقي. ألوانه، الأخضر والبني، معروفة ومتداولة في المشرق خلال القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، ومن بعد في المغرب الإسلامي والأندلس. أما الزخرفة القائمة على التقابل المتعاكس، فهي إرث أكيد من الفن الإسلامي. التزاوج القوي يبدو أيضا في صورة البرج ذي طوابق الثلاثة الذي يشبه ذلك الموجود في باترنا والمتداول في صناعات المدينة "كموضوع زخرفي. نجد في مستواه الأول، فتحتين بعقود ثلاثية الفصوص تحتمي داخلها امرأتان متقابلتان جالستان على الطريقة الشرقية بلباس مفتوح الصدر، وتحملان تاجين على شعرهما الطويل على شاكلة ملكات إيران وبلاد ما بين النهرين. في يد كل منهما قرص، ربما آلة موسيقية أو مرآة صغيرة باعتبارها أداة زينة تستعمل عادة في الثقافة المسيحية لتلك الفترة لإظهار الأناقة والبذخ. هذا الموضوع متداول كثيرا على قطع الخزف في باترنا".



يشير كتابٌ مرجعي بالفرنسية عنوانه (بيكاسو والسيراميك)[2] إلى بعض دين بيكاسو واستعاراته من مختلف أنواع الخزف، وعَرَضَاً لخزف بلنسية في عدة مواقع. يقارب مثلا خزفية بيكاسو (صحن مع رأس بري وحاجز فخاري ثلاثي القوائم) مع صحن يرقى إلى باترنا، بلنسية قائلاً: "عندما يستخدم بيكاسو طوعا أرجل الديك في بعض أعماله [يقصد صحنه المذكور] فمن الممكن أن يقيم صلة مع صحن باترنا على سبيل المثال حيث بقي الحاجز الفخاري ثلاثي القوائم عالقاً بالمصادفة على الصحن أثناء عملية الطبخ. بعدئذ، ومن وجهة نظر شكلية، يستلهم بيكاسو نموذج أولي بلاستيكي مستعار من مدونة السيراميك ما قبل الكلاسيكي كما الكلاسيكي وأيضاً مما قبل الكولومبي والشعبي" (ص190).

ولا يبدو أن الاحتمالية البعيدة التي يضعها المؤلف لتأثر بيكاسو  بصحن بلنسية، في محلها من دون فهم المفردة الفرنسية pernette التي لم نجدها بالقاموس العربي-الفرنسي، ووجدنا بالأحرى تعريفا لها في أماكن أخرى: "هي حامل من الطين عادة، يمنع الفخار من أن يلامس بعضه في الفرن أثناء الطهي. وتأخذ هذه الحوامل في السيراميك الإسلامي عموما، يمضي مصدرنا إلى القول، شكل نجوم بثلاثة فروع. نهاياتها المدبّبة تترك أثراً غير مطليّ في نقاط الاتصال مع القطعة الفخارية المجاوِرة". تلقي المراجع الإسبانية المتعلقة بصناعة الخزف المزيد من الضوء على هذه الحاجز ثلاثي القوائم المرئي ملتصقاُ في قطعة بيكاسو وصحن بلنسية.

تذكر المصادر الإسبانية أن الـحاجز هذا ثلاثي القوائم وأنه يسمى بالإسبانية Atifle، كلمة من أصل عربي. يسلط تعريف قاموس الأكاديمية الملكية الإسبانية المزيد من الإضاءة عليها: أرتيفيل، الطفيل، أثافي.

atifle. (Del ár. hisp. atífil, este de aṯáfil, y este del ár. clás. aṯafī, piedras en las que se apoya la marmita, trébedes).
Atifle: (من العربية إلى الأسبانية أرتيفيل، من أطافيل، من العربية الكلاسيكية أثافي: الحجارة التي توضع عليها غلاية، ركيزة).
إنها الأثافي إذنْ. في لسان العرب: والأُثْفِيَّة: ما يوضع عليه القِدْر، تقديره أُفْعُولة، والجمع أَثافيُّ وأَثاثيُّ. وهي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها، والهمزة فيها زائدة. وثَفَّى القدر وأَثْفاها: جعلها على الأَثافي. وثَفَّيْتها وضعتها على الأَثافي. ورماه الله بثالثة الأَثافِي: يعني الجبل لأَنه يجعل صخرتان إِلى جانبه وينصب عليه وعليهما القدر، فمعناه رماه الله بما لا يقوم له. الموقد لغة موضع الوقد، وكذلك الموقدة. وهي هِنَةٌ ذات ثلاثة جوانب أو أثافي تُعمل من حجر أو طين أو معدن وتوقَد فيها النار ويُطبخ عليها.

وفي ظننا أننا أمام كلمة اصطلاحية أندلسية عن فن صناعة الخزف، وقع فيها تحويل المفردة أثافي من معناها الأصلي إلى معنى لصيق بحامل تقني صغير الحجم في غاية الأهمية لتلك الصناعة. لا مصدر عربياً، على حد علمنا يشير إلى هذا الاستخدام التقنيّ.
كلنا نعرف المثل العربي "ثالثة الأثافي" الذي قد يفسِّر لنا لماذا تجاهل محللو خزف بيكاسو أن "الأثافي" الموضوعة على خزفيته، تمتلك تاريخاً عريقاً في الخزف الأندلسي الإسلامي، حتى أن اسمها ظل هو نفسه حتى اليوم الراهن. وقد وجدت منها كميات كبيرة في قصبة مالقة يمكن أن نراها في الصورة جوار كلامنا.

في مدينة سيكوينوا في مقاطعة گوادالاخارا في وسط أسبانيا[3] أيضاً اكتشف العديد من الأثافي الخزفية هذه، بالاسم العربي نفسه دائماً حتى اللحظة. ترينا إحدى صورنا الطريقة التي تُوضع فيه الأثفية لكي تمنع الالتصاق بالصحن الآخر الموضوع فوقه في الفرن.


استخدام بيكاسو للأثفية متأثرا بصحن بلنسبة أو غيرها من المدن الأندلسية لا يبدو محض احتمالية بعيدة، بل هو شبه أكيد، لأن سعة معرفة الأندلسيين بها معروفة بمكان، ولا يمكن الظن أن بيكاسو يجهلها بحال من الأحوال، مع الكمية الكبيرة المكتشفة منها في مالقة خاصة، وفي المدن الأندلسية الأخرى، ومع وجود العديد من الصحون الأندلسية القديمة التي ظلت الأثفية ملتصقة بها بسبب خلل تقنيّ. يبدو بيكاسو مطلعاً بشكل واسع على الإرث الخزفي الإسلامي الأندلسي، أقلها عبر هذا التفصيل الدقيق العارف، ناهيك عن أن لون صحن بيكاسو الأخضر الذي يعنينا هو لون الصحن البلنسي. وهذا اللون عريق في تقاليد الخزف الإسلامي في الأندلس. من جديد نلاحظ أن هواجس بيكاسو قد أفادت من فكرة الأثفية الملتصقة خطأُ وجعلتها عنصرا تشكيلياً معاصراً يقوم على فكرة الكولاج المتعمَّد الذي يعرفه بيكاسو منذ وقت التكعيبية المبكر في مساره الفني. الفارق المفهومي كبير دون شك بين التصاق صدفوي وبين الكولاج.


فالكولاج جدّد الممارسة التشكيلية مسائلاً فكرة التمثيل التقليدية للواقع وصناعة الصورة image، وهو يقارب بين الفن والحياة حيث ستشكل عناصر الواقع البسيطة والعادية، من حينها، جزءاً عضوياً من العمل الفني، وحيث الأشياء المألوفة الاستخدام في الحياة اليومية والمستهلكة يمكن أن تندغم في الفن. يُعزى أول اكتشاف للكولاج في تاريخ الفن الحديث لبيكاسو، وذلك في عمله (طبيعة صامتة مع كرسي من الخيزران Nature morte à la chaise cannée) (متحف بيكاسو، باريس) الذي أنجزه في شهر أيار/ مايو عام 1912. وقد أنجز العمل انطلاقاً من رغبة بيكاسو وبراك في العودة إلى (الواقع) في مواجهة خطر التجريد الذي تعتمل به التكعيبية التحليلية في مرحلتها الأكثر التباساً. قرّر بيكاسو في تلك السنة أن يدمج في بعض أعماله مواد غريبة على تقنيات اللوحة التقليدية، ضمن مساءلة مفهومية عن علاقة الفن بما يمثله.

رغم ذلك وبعد ثلاثين عاماً تقريباً من أول كولاج يسُجِّل باسمه، لا يبدو كولاج صحن بيكاسو الخزفيّ أمام أي مساءلة مفهومية عن علاقة الفن بتمثيل الواقع، قدر ما هو ممارسة بلاستيكية لُعُبية تقريباً، ناضجة، تستثمر سمعة عريقة للفنان بهذا الشأن، وتغترف بالتالي من صحن بلنسية الذي وجده ملائماً لهذه الشهرة وتلك المساءلة القديمة، المفقودة عملياً في كولاجه الخزفي الحالي. من جهة لا علاقة موضوعية تبرر علاقة الحياة البرية بهذا الحاجز ثلاثي الأرجل، ومن جهة أخرى لا نعرف لبيكاسو مبررات نظرية جمالية للكولاج، لمثل هذا الكولاج عينه، في أعمال السيراميك التي أنجزها طيلة انشغاله به.


في الفصل المتعلق بمراجع خزف بيكاسو، هناك شروحات في كتاب (بيكاسو والسيراميك) المذكور عن كيفية عودة بيكاسو إلى المراجع الفوتوغرافية من أجل إيجاد أو استلهام تصاميمه الخزفية. يتحدث المؤلف من بين أمور كثيرة عن علاقة الفنان بالخزف القبرصي (ص192)، وإعادة إنتاجه لتصميم خزفية فرنسية (ص196) منشورة سابقاً في كتاب عن الخزف الفرنسي صادر عام 1928[4]. لا يقيّم مرجعنا هذه السرقة البيكاسوية الصريحة إلا بالقول أنها "تطابق" الأصل. وإذا ما كان معقولاً إلى حد ما أن يعود بيكاسو إلى خزفية أتروسيكية تمثل بطة، نقلها بيكاسو بتصميمها الحرفي عينه في عمله (حاملة زهور مع أيد وطائر)[5]،


على أساس أنها من كلاسيكيات فن الخزف، فليس معقولاً أن "يأخذ" تصميماً خزفياً فرنسياً حديثاً تقريباً وبحرفيته، دون أن يثير الأمر بعض الريبة. هذا المثال مفيد لشرح كيف يُكتب أحياناً تاريخ الفن، وكيف يختار مفرداته إذا تعلق الأمر بفنان قادم من ثقافة منتصِرة مثل بيكاسو, هذا "التطابق" هو اسم مخفف للغاية لفعل آخر. وقد يكون دليلاً على الكيفية التي "يتطابق" فيها عمله، حرفياً، مع أعمال أخرى تهمّ مبحثنا الحالي. الأمر الجوهري في الخزفية الفرنسية هو تصميمها المتميز. لقد "أخذه" بيكاسو مثلما هو بالضبط، لكنه رسم عليه أشكاله الزخرفية التجريدية التي يمكن، من جهة أخرى، افتراض مصادرها. ويبدو أن بيكاسو، في هذه حالة هذه الخزفية الفرنسية العشرينية، يَعتقد أن مجرد تدخُّله بالرسم على تصميم ليس من تصاميمه، مهما كان درجة تمايزه، يمنحه الحق بعزو التصميم لنفسه، أو تمويه مصدره. نعرف شعراء عرباً يقومون بالأمر نفسه على مستوى إبداعي آخر.

هذا المثال نموذجي من أجل شرح علاقة بيكاسو بالخزف الأندلسي الذي لم يكن هو بحاجة إلى وثائق فوتوغرافية للاطلاع عليه.
يؤمن بيكاسو على ما يبدو أن عبقريته، وشهرته التي طبقت الآفاق تسمح له باعتبار كل إنجاز سابق أو معاصر بعضاً من مستحقاته، إذا لم نقل منجزاته. ومن جديد نعرف شعراء عرباً يذهبون المذهب نفسه. وعلى المنوال نفسه يصمت مؤرخو تاريخ الفن، أو يخففون، من كل واقعةِ "تطابقٍ" مريبة لصالح فعالية تشكيلية جبارة أثبتت أنها خلاقة على الصعيد الإبداعي. نحن نرى إفراطاً في كلا الموقفين. إن استيهامات بيكاسو نموذجية في عزوها أعمال الآخرين لنفسها، ولم تكن لترضي جميع الأوساط التشكيلية والمتخصصة في القارة الأوربية. لم يصمت نقاد الفن عن "تطابقات" بيكاسو مع أعمال يعرفونها جيدا في تاريخ الفن الأوربي. بعضهم مثل جورج شارنسول (Georges Charensol) يتحدث عن انه نسخ حرفياً أشكال الفن الأفريقي[6]، لكنهم يصمتون قليلاً عن تطابقاته مع الفن الأندلسي.

وإذا ما تحدث البعض في مناسبات عدة، خاصة في سنوات الثلاثينيات، عن انزعاجهم من بيكاسو، فقد نطقوا بنبرة فيها إشارات مريبة لأصله الأندلسي، الإسلامي، البربري، بالضبط كما يتحدث بعضهم اليوم عن العرب والثقافة العربية. وكدليل على تلك الإشارات ما كتبه مثلاً جورج شارنسول أعلاه صديق بيكاسو بمناسبة اتجاهاته السوريالية: "بيكاسو هو قبل كل شيء أندلسي، ومن سلالة الغزاة العرب"[7] (ص230)[8]. جاك غينJacques Guenne  قال: "بيكاسو بربري عذب"" (ص229 المرجع أعلاه)، فلاديمار جورج Waldemar Georges: "بيكاسو مكتفٍ بسعاره المعادي للصورة iconoclaste " (ص229 المرجع أعلاه). وكلها تصريحات وتلميحات إلى أصله الأندلسي، أو إلى إسلام يعادي للصورة. كان الجميع يعلم من دون شك أن والدة بيكاسو دونا مريا أي لوبيز Doña Maria Picasso y Lopez من أصل أندلسي عربي. وحسب البعض فإن بيكاسو لم يُقبل في فرنسا إلا عام 1945، ويضع من بين أسباب قبوله شعبياً ونقدياً أنه عاد وصار خزافاً[9]، بإشارة إلى أعمال Vallauris الخزفية التي أطلقت طاقته السيراميكية.

نظر أسوأ ما في النقد الفرنسي إلى بيكاسو بعين الريبة بل العنصرية لأنه أندلسي من أمٍّ ذات أصول عربية، وإنْ لم يقل الأمر على نحو فج أبداً، وبقيت هذه النظرة، على ما يبدو، خفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. بينما نظر، بنية سليمة، أرفع الأسماء في الثقافة الفرنسية، مثل أبولونير، إلى نزوعه التجديدي، وتشخيصيته الحرة، واقترابه من التجريد على أنه قادم أيضا من أصلٍ أندلسي إسلامي لا يحبّذ الصورة والتصوير. في كلا الحالتين ثمة أمر غير مريح في الغالب بالنسبة للفنان، وهو ما قد يفسِّر تغافله وتجاهله وطمره أمر مراجعه الأندلسية، مكتفياً بمنجزه البديع الذي هو الرد المفحم على نزعات الريبة العنصرية التي قيلت في وجهه بأسلوب حريري، ولغة ثقافية عالية.


إن أي استعراض للحياة السياسية الفرنسية، وتصوراتها الثقافية عن الشعوب المستعمرة في الفترة الممتدة على الأقل من احتلال الجزائر حتى نهاية الخمسينيات، ستدل المرء بسهولة إلى صعوبة أن يكون المرء عربيا، أو مسلماً، أو من أصول أندلسية حتى لا نقول إسبانية. شهدت هذه الفترة كل أنواع التصورات الاستعلائية والأكزوتيكية والاستشراقية والعنصرية واستغلال الشعوب والحروب الطاحنة ضدها، والتقليل من شأن حضاراتها. ولقد كانت إسبانيا في قلب ذلك. وضع الوعيّ الأوروبي إسبانيا، لفترة طويلة، في مصاف "بلدان الجنوب" المتخلفة. إن جرداً بالكتابات والاستشهادات التي تنظر إلى الأسبان بهذه الروحية ولا شيء سواها، يمكن أن تؤلف كتابا بأكثر من مجلد واحد. لنتذكر أن مفردة موريسكي (mauresque) وحدها كانت مثقلة بدلالات سالبة عميقة في الأدبيات الأوروبية. ومن هنا علينا النظر إلى عملية الطمس الواعية أو اللاواعية التي قام بها بيكاسو لكي لا يتذكّر أو يذكّره أحد بتلك المفردة.

غير أن هذا الطمس قاد إلى نتائج تعنينا نحن بشأن علاقته بالخزف الأندلسي. لقد أنجز أهم خزفه كما نعلم بدءاً من سنوات الأربعينات من القرن الماضي.
وبدءاً من تلك السنوات الأربعينية عينها وصل بيكاسو إلى قمة شهرته التي لم يعد يخشى بعدها أي تأويل غير مريح لعمله. لكن من هذه الثقة أيضا لا يبدو أبداً أنه كان متحمساً لذكر مراجعه الأندلسية، في مفارقةٍ لا يمكن فهمهما إلا بفهم مجمل تصوره عن "عبقريته" الفريدة التي تبيح الاغتراف من أي مصدر وتعتبره أمراً مشروعاً دون الإشارة إليه والتصريح به.

بعض هذا الدين بديهي، لكنه مستبعد من وعي بيكاسو بفرادته. فإن جميع الخزف المتوسطي دأب على تمثيل السمك في خزفه، بطرق مختلفة. تتقارب النماذج التي قدمها بيكاسو للسمك من نماذج مدينة منيشة Manisès في مقاطعة بلنسية، لجهات عدة، على رأسها تقديمه بشكل دائري حول الصحن. هناك أكثر من مثال لذلك في خزف بيكاسو، منها مثلاً صحنه "طبق إسباني مع ثلاث سمكات على ورقة جريدة" عام 1957 الذي يقاربه مؤلف مرجعنا بنموذج لصحن منيشة، وهو من القرن السابع عشر الميلادي. توجد نماذج متشابهة معه، منها صحن أبعد عهدا قليلاً، من القرن السادس عشر. يصفه مزاد كريستيس – نيويورك الذي باعه عام 2008 بأنه صحن كبير منبعج من الوسط، من الغضار الإسباني-الموريسكي، على شكل دائري، الجناح مقولب بثلاث سنابل أو أوراق ذات ديكور أزرق وملمَّعة بالنحاس. الانبعاج ذو الموتيف المتلألئ المحاط بالسمك ينفصل بأرابسك نباتي نصفي. قفا الصحن مزين بعجلة مضفّرة، ودوائر مشتركة المركز وبموتيفات دائرية، وفيه ثقب للتعليق، وقد أجري له اليوم بعض الترميم وبه صدوع. قطره 40سم.

السمك في صحن بيكاسو وفي الصحن الموريسكي مُثـِّل له بشكل دائري. جميع التمثيلات السمكية في خزف بيكاسو نجد ما يشابهها في صحون بلنسية، الرفيعة أو الشعبية، بل نجدها في صحون المغرب العربي بوفرة وافرة. إنها ثيمة مألوفة مشتركة بين الخزف المغاربي والأيبيري منذ وقت ضارب في التاريخ. من المعقول أن يكون بيكاسو قد اعتاد منذ طفولته على رؤية هذه الثيمة في خزف عائلته أو خزف مالقة نهايات القرن التاسع عشر المشبع بعد بالتأثيرات الأندلسية.

مختلف الحيوانات التي قدّمها الخزف الموريسكي استأثر بها كذلك خزف بيكاسو، ومنها أنواع الطيور، وبهذا الشأن لنعد إلى مرجعنا (بيكاسو والسيراميك) الذي يذكر أن "بيكاسو غالباً ما قدّم في صحونه الإسبانية الطيور، وخاصة البوم [ويقدّم المؤلف مثالا على ذلك صحنه "صحن إسباني مع بوم". 1957م]"، مضيفاً: " لعل الخزف الإسباني- الموريسكي يُستدعى هنا مرة أخرى، فإن موتيف النسر المتخذ شٍعاراً يوجد على قفا العديد من صحونه لكن أيضا وبالمناسبة في داخلها" (ص214) ثم يحيل على صحن من بلنسية يرقى إلى القرن السادس عشر-السابع عشر، ويقول مباشرة: "الإستراتيجية الزخرفية نفسها موجودة في الخزف الإسلامي وفي الصحن ذي الطلاء المعدني الفاطمي الذي يرقى إلى القرن العاشر الميلادي. إن بيكاسو، يقول المؤلف، قد استطاع التعرف على بعض الأمثلة من جديد عبر المنشورات المتوفرة في ذلك الوقت. من المؤكد أن بيكاسو عندما عرض على [مُحاوِرِه] كارلتون لاك عام 1957م صحنا مزيَّناً بمشهد من مضارعة الثيران، بمسحةٍ من الطلاء ذي البريق المعدني مع النحاس، فقد كان يقول له بأنه يجرِّب ويحاول بأن يمنحها مذاق السيراميك الإسباني- الموريسكي العتيق" (ص214). انتهى ما يقول مرجعنا، وهو يستشهد على ما يبدو بحوار مع بيكاسو منشور في مرجع عنوانه (بيكاسو يتكلم)[10].

هذه مرة من المرات النادرة التي نعثر فيها هنا على اعتراف من طرف بيكاسو بعودته إلى الخزف الموريسكي. نلاحظ عدة أمور غير ذلك، منها أن الصحن الفاطمي المشار إليه، الموقَّع من طرف خزاف فاطمي تحت الجوارح اليمني من النسر، يدل أن شعار النسر قد استخدم موتيفاً شعبيا لفترة طويلة في العالم الإسلامي، وإنه مع ذلك يندرج في فهارس أيقونية أخرى غير الأيقونية الفاطمية على ما يقول دليل متحف المتروبولينان عن حق. لكن الطيور الجارحة كانت على الدوام، حسب المراجع التراثية الإسلامية، موضوعا أثيرا للمصورين على كل أنواع الحوامل التصويرية. هناك نص ينقله أبو الفرج الأصفهاني يرِدُ فيه أن الطيور الجوارح كانت، حوالي القرن العاشر الميلادي، تُرْسم على الجامات (أي الكؤوس الزجاجية) في البصرة[11]. وآخر يورده ابن المعتز في "طبقات الشعراء" عن أصحاب أبي نواس الذين دخلوا بيتا في بغداد العباسية: "مُنقَّش بتصاوير الذهب وتماثيل العقبان [النسور]" (ص63).

من أجل مزيد من الوضوح لهذه المقاربة نضع صحن بيكاسو المعنون "بومٌ أسود جاثم" 1957م الذي بيع في مزاد كريستبيز أمام القارئ، ونراه أقرب لموتيف الصحن الفاطمي، لأكثر من جهة: وحدة وضعية الطائرين، ووحدة التكوين عبر انتشار جناحي الطائرين على أطراف الصحن واستخدامهما في الحالتين بمثابة عنصر زخرفي. هناك أكثر من صحن لبيكاسو يقدّم هذا التكوين نفسه بالضبط للبوم. يظل الحالي، في تقديرنا، أكثر جموداً من صحنه المنشور في كتاب (بيكاسو والسيراميك) المعنون "طبق إسباني مع بوم" عام 1957م الذي كان موضوع المقارنة البعيدة لمؤلف الكتاب بالطبق الفاطمي، لأنه مرسوم بحرية أكبر وبتلك التشخيصية الحرة التي عُرف بها بيكاسو، خاصة في رسم ريش الطائر الهابطة بضربات فرشاة تلقائية واثقة، مقارنة بريش البوم الجاثم المنشور هنا التي رُسمتْ ببرود شبه هندسي.

لا تستوي هذه المقاربة إلا عند التقدم في الزمن، وصولا إلى القرن الخامس عشر ورؤية الدين المباشر لبيكاسو من أسلافه الأسبان الأقرب في مدينة منيشة البلنسية. رغم أن صحن منيشة القادم من القرن الخامس عشر للميلاد يقدم نسراً شعارياً، فإنه يصير سهلاً الاعتقاد أن بعض تكوينات بيكاسو لطيور أخرى كالبوم، تستهدي بتكوين النسر ناشر الجناحين. يقدّم صحن بيكاسو "بوم أبيض على خلفية حمراء" من عام 1957 الذي بيع في كريستبيز أيضاً، التكوين ذاته مستعيضا عن ريش الطائر الهابط عمودياً بسلاسل من الأغصان الهابطة عموديا بدورها، سوى اثنين أفقية، والأمر ذاته فعله بشأن قوائمه. مجمل الانطباع هو أن طريقة بيكاسو في رسم البوم في هذين العملين على الأقل خارجة من التقاليد نفسها في رسم النسر الشعاري.

إن تقليد التقش "بتصاوير الذهب وتماثيل العقبان [النسور]" التي يوردها ابن المعتز هو تقليد فارسي كذلك كما يشفّ من المراجع، وكان موضوعا أثيراً للرسامين المسلمين. لا يتوجب التوقف أمام صحن منيشة ذي النسر وصحن بيكاسو ذي البوم من وجهة نظر شكلانية فقط، على أهميتها، على أساس أن الطيْران يُفْرِدان جناحيهما ونرى في الحالتين ريشا عمودياً. هذه الوجهة ساذجة من دون الذهاب إلى مكان آخر لرؤية مشترك أعمق في تراث عريق معروف من قبل الرسام المالقي بيكاسو.

هناك في أعمال بيكاسو التصويرية، حتى الخزفية منها، شيء يُقارَبُ بالصقور والعقبان الخرافية التي رسمها المستعربون المسيحيون الأسبان Mozarabe في أناجيلهم، خاصة عندما قدموا تمثيلات متخيلة لسِفْر القيامة. لقد ظلت الكثير من نماذجهم مستخدمة في الخزف الشعبي الموريسكي لفترة طويلة.


[1]  من كتاب يصدر قريباً بعنوان " بيكاسو وفن المستعربين الأندلسيين".

[2] Picasso et la céramique (collectif), Ed. Hazan 2004.

[3]  انظر عن (أثافي) الأفران في هذه المنطقة وفي مدينة طليطلة على سبيل المثال:
José Aguado Villalba, La cerámica hispanomusulmana de Toledo, Instituto Provincial de Investigaciones y Estudios Toledanos, CSIC, Madrid 1983. Un muy exhaustivo estudio realizado igualmente a partir de fragmentos obtenidos en vertederos y taludes de la ciudad de Toledo.

[4]  شكل رقم 100 في الكتاب، والشكلين 82-91 في المصدر الأصلي.

[5]  صورة الخزفية الأتروسكية على ص200 في الكتاب وعمل بيكاسو على ص201.

[6] «en 1907 si Picasso est obsédé par l'art africain qu'il vient de découvrir au point d'en copier littéralement les formes dans les figures qu'il peint tout au long de cette année capitale».

[7] Pierre Daix, Pour une histoire culturelle de l’art moderne : le vingtième siècle, Odile Jacob, Paris, 2000, p 230.

[8]  جورج شارنسول نفسه كتب بحثاُ بعنوان (بيكاسو وإسبانيا) في:
Picasso et l’Espagne  G. CHARENSOL, dans L' ART VIVANT, numéro 147 du 01 avril 1931.

[9] · J. Cée : Art et cauchemar, Publibook, 2003 p.116. واسم المؤلف مستعار، ولعله ليس مؤرخا فنياً لكنه يمنحنا فكرة عن التصور السائد عن بيكاسو في تلك الفترة.

[10] Lake, Carlton : Picasso Speaking ; The Atlantic Monthly, vol.200, no.1, juillet 1957, p.35-41.

[11]  هنا نص الخبر مثلما يرد في كتاب الأغاني: "أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال كان بالبصرة رجل يقال له حمدان لخراط فاتخذ جاما لإنسان كان بشار عنده، فسأله بشار أن يتخذ له جاما فيه صور طير تطير. فاتخذه له وجاءه به فقال له: ما في هذا الجام؟. فقال: صور طير تطير. فقال له: قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذه لطير طائرا من الجوارح كأنه يريد صيدها فإنه كان أحسن. قال: لم أعلم. قال: بلى قد علمت ولكن علمت أني أعمى لا أبصر شيئا. وتهدده بالهجاء. فقال له حمدان: لا تفعل فإنك تندم. قال: أوَ تهددني أيضا؟. قال: نعم. قال: فأي شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك؟. قال: أصورك على باب داري بصورتك هذه وأجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يراك الصادر والوارد. قال بشار :اللهم اخزه أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد" (3/145 دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية، تحقيق: سمير جابر).
------------------------------------------------------------------------------------------------------------
نشر فى مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة - العدد الأول - إبريل 2012
https://www.facebook.com/AlMejalla