Monday, September 3, 2012

شعر - زهير أبو شايب


فِصام



لا تَقُلْ لى

انتصَفَ الليلُ على صدرِك

لَم تذهب إلى الليلِ وحيدًا



فانتظرْ نفسَكَ فى العتمةِ

أنتَ الميّتُ الآنَ

ولا شيءَ أنا.



لا تقُلْ لى كلّما متَّ:

انتظرْ

لا تلمِس الفجرَ

انتظرْ أنتَ إذا شئتَ

وخُذْ ليلَكَ

واسقطْ فيهِ

خُذْ أحلامَكَ الأولى

وخُنها لتَرى نفسَكَ

أنتَ الميّتُ الآنَ

ولا

شيءَ

أنا



إنها تُمطرُ فى الخارجِ

لكنْ ليسَ لى.

إنّها تُمطرُ

لكنْ فى الأساطيرِ

لِطفلٍ

لم يَزَلْ يَنظرُ من صورتهِ فوقَ الجدار

نحوَ لا شيءَ

ولا يُبقى له الليلُ

سوى عتمتِهِ.



لا تُضيءْ من أجلِهِ يا برقُ

كى يَهبطَ من صورتِهِ



نحنُ فى العتمةِ لسنا نحنُ

نحنُ اثنانِ مفقودانِ:

ظِلّى

وأنا

فانتظرْ نفسَكَ فى العتمةِ

هذا الليلُ يكفى لقتيلٍ واحدٍ:

أنا

أو

أنتَ

ولا يكفى لنا.
________________

زهير أبو شايب

عمَّان - الأردن

العدد الرابع - يوليو 2012

مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة

Friday, August 31, 2012

أفكار - بقلم د. مصطفى نور الدين



اللاوعى وما بعد البيولوجيا




هو سؤال قديم حول الفعل الإنسانى، طرحته البشرية عبر العصور فى صيغة "الجبر والاختيار" و "القضاء والقدر".. هل الإنسان هو مالك القرار وصاحب الفعل، أم أن هناك قوانين طبيعية ونفسية واجتماعية تلزمه بالتصرف على هذا النحو دون أن تترك له خيارًا آخر، فهو يعمل على نحو قسرى، وأفعاله تحتمها قوانين مقدرة سلفًا مثلها مثل القوانين الطبيعية التى تحتم سقوط الأمطار وهبوب الرياح؟
هل اللاوعي هو المحرك الخفي لسلوك الإنسان؟ وهل التحليل النفسي الذي يؤكد على تلك الفكرة علم يؤخذ بنظرياته كحقيقة علمية؟
هذا السؤال يجيب عليه علماء دراسة العقل البشري والأعصاب بشأن اللاوعي ودوره في السلوك، فبرغم كل ما قيل من أن التحليل النفسي ليس بعلم والإقرار بذلك من قبل بعض من كبار ممثليه، انبرى بعض العلماء المتخصصين في دراسة المخ والجهاز العصبي بالدفاع عن أطروحة التحليل النفسي بشأن اللاوعي ودوره في توجيه فعل الإنسان رغما عنه.
ففي عام ١٩٩٢ ظهرت كتابات مهمة لعالم بيولوجيا الجهاز العصبي "جيرالد إيدلمان" وهو الحائز على جائزة نوبل للطب في 1972، ويدافع إيدلمان عن اللاوعي بأطروحات "فوق علمية" إن جاز التعبير بل و "ميتا – بيولوجية" أي "ما فوق الحيوية".. وهو بأطروحاته يفتح ثغرة في جدار العلوم الصلبة ليدخل منها التحليل النفسي ليس ليناقشه وهل هو علم أم لا وإنما ليقول دون تردد إن اللاوعي موجود وله محله في العقل البشري وبالتالي له تأثير على سلوك الإنسان.
يقول إيدلمان: "تراكمت نتائج عديدة متعلقة بأمراض العصاب وكذا في التنويم المغناطيسي وفي زلات اللسان لتبرهن على صحة معظم الأطروحات الأساسية المتعلقة باللاوعي التي قالت بها المدرسة الفرويدية وهي الأطروحات التي تمنح اللاوعي دورًا حاسمًا في التأثير على فعل الإنسان.. إذ بحسب فرويد هناك عناصر مدفونة في اللاوعي يمكن أن تتجلى في فعل واعٍ.. فبرغم أنه من الممكن النظر لفرويد على أنه ليس عالما بالمعنى الدقيق للكلمة فإنه من أوائل من توصلوا للكشف عن اللاوعي وتأثيره على السلوك الإنساني".
ويضيف :"إن النتيجة النهائية التي توصلت إليها ويمكن تعميمها على كل العلوم التي تهتم بالعقل تتلخص في أنه بثبوت أفعال وقعت تحت تأثير اللاوعي فالنتائج التي نصل إليها عن طريق استبطان الوعي (أي توصل الوعي لمشاهدة ما يدور في العقل) عرضة لأخطاء كبيرة.."  ذلك يعني أن الوعي لا يكشف لنا الحقيقة كاملة.
ويتواصل التأكيد على تلك الفكرة من قبل العديد من العلماء ومن أهم هؤلاء الدراسين للعقل انتشر اسم "انطونيو دامازيو" الذي يقدم براهينه على الأطروحة المؤيدة لوجود اللاوعي وتأثيره على سلوك الإنسان.
يقول دامازيو: "إن أفكارنا وذكرياتنا نتاج عملية طويلة لسنا واعين بها، فنحن نعرف أن العقل البشري واقع تحت تأثير عوامل غامضة وملغزة كان القدماء ينسبونها لآلهة أو لقدر.. وهذه القوى الغامضة تم إعادة اكتشافها في مطلع القرن العشرين في الأعماق الغائرة في العقل بحسب النموذج الذي ينسب عادة لسيجموند فرويد، وهذه الأعماق الغائرة بحسب تلك النظرية تعود لتجارب مر بها الفرد في بدايات حياته".
ويضيف دامازيو عبارة تدهش لصدورها عن عالم يستند على التجربة المعملية حيث يقول: "إن البراهين على وجود اللاوعي لم تتوقف عن التراكم طوال هذا القرن بما في ذلك من حقول العلوم التي لا تنتمي لمدرسة فرويد أو يونج.. فكل من علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإدراكى الحسي واللغويات وعلوم دراسة العقل كلها تمدنا بدلائل لا يمكن تكذيبها عن أهمية ما ليس بوعي على العقل الإنساني وعلى السلوك وعلى الكيفية التي يعمل بها اللاوعي".
ويذهب دامازيو إلى أبعد من غيره من المتخصصين في دراسة العقل بالقول بأن "عالم اللاوعي يجد جذوره في قلب نظام الخلايا العصبية التي تشكل دعامة الذاكرة الشخصية، وأن التحليل النفسي هو وسيلة لمعاودة اكتشاف شبكة الروابط النفسية المتداخلة والمتشابكة بقلب سجل تاريخ الذاكرة الشخصية".
الأكثر غرابة فيما يقوله انطونيو دامازيو هو ما يخص الوعي الأخلاقي لدى الإنسان، حيث يقول: "إن النظام اللاواعي لجسد الفرد يخلق بداية الهوية أو الأنا التي تسمح بتطور كل من الأنا المركزية وكذا وعي جنيني وأن كل أولئك بدورهم يسمحون بتكوين أو تشكيل السيرة الذاتية للأنا ثم يأتي بعدها تشكل الوعي الممتد، وفي نهاية السلسلة يقود الوعي الممتد إلى الوعي الأخلاقي".
من حقنا هنا أن نتساءل: هل هذا الكلام علمي حقًا أم هو تخيل محض ومحض تخيل؟ إذ كيف يمكننا التأكد من هذه العملية؟ وهل وعينا الأخلاقي مسألة تخص علم الأحياء "بيولوجية"؟
المشكلة التي نقابلها مع مثل تلك الفكرة ناجمة في جانب منها في أن علوم دراسة الأعصاب تستخدم مصطلحًا أو مفهومًا محمًّلا بالعديد من التفسيرات والأفكار في الفلسفة والديانات والتحليل النفسي.. فتحديد المقصود باللاوعي يختلف من فكر لآخر ومن حقل معرفي لغيره، وهذا الخلط هو ما يجسده الخلاف بين العلماء المتخصصين في دراسة العقل والأعصاب أنفسهم ويعكس تعقد القضية.. والتوقف عند "جوزيف لودو" وهو أحد كبار العلماء المعارضين لتصور دامازيو سيوضح رؤية أخرى وتفسيرا آخر في داخل ذات الحقل المعرفي الذي يفترض أن منهجه العلمي يقود إلى اتفاق بين الجميع ولكنه فيما يخص تلك القضية لا يتحقق.
يقول جوزيف لودو: "هل لو تمكن شخص من حل مشكلة الوعي سيقود ذلك لفهم كيف تسلك المورِّثات (من الكلمة المفردة: المورٍّثة) أو "الجينات" أي عنصر الوراثة التي تشكل الوحدة الأساسية للوراثة في الكائن الحي؟" ويجيب "لودو" بالنفي.. ذلك لأن المشكلة التي يتناولها علم السلوك المستند على دراسة العقل هي: كيف عملت عقولنا لأن نكون ما نحن عليه، فالكثير من أفكارنا ومشاعرنا وأفعالنا تجري بصورة تلقائية ولا يحيط الوعي بها عند قيامه بها إلا في لحظة حدوثها".
وعند هذا المستوى من التعرض لمسألة الفعل الإنساني يبدأ خلاف جوزيف لودو مع التوجه الذي يتبناه التيار المعارض من أمثال "إيدلمان ودامازيو" لأنه يضع بعض التحفظات بشأن التحليل النفسي.
يعتبر جوزيف لودو أن لغز الشخصية يتطلب التوصل لحل غموض الوظائف اللاواعية للعقل بشكل جوهري، غير أنه يضيف تعريفه الخاص لمفهوم اللاوعي حتى يستبعد أي خلط وسوء فهم بما يعنيه بالمفهوم المعقد.
يقول "لودو": بأن اللاوعي مفهوم غير واضح في معناه فالبعض حينما يستخدمه يقصد به الذكريات المؤلمة التي تم دفنها ونسيانها أي الاستخدام الذي يقصده سيجموند فرويد.. في حين أن البعض عند التطرق لمفهوم اللاوعي يقصد تلك الحالة التي يمر بها الإنسان في لحظة الموت العيادي.. وغيرهم يقصدون حالة فقدان الوعي بعد تلقي ضربة على الرأس أو لأنه في حالة ثمل بعد المبالغة في تناول مشروبات روحية.
وهنا يحدد لودو أن كل تلك الحالات ليست هي ما يقصده باللاوعي، فاللاوعي بحسب ما يعنيه هو قيام العقل بالعديد من الأشياء دون أن يكون الوعي محيطًا بها.
برغم هذا الموقف الواضح في نظرية لودو فإنه يترك الباب مفتوحًا للتفسير الذي يقدمه التحليل النفسي في أطروحات فرويد، فيقول بأنه: بالفعل "هناك مظاهر ضمنية وأخرى واضحة للأنا"، فما نعرفه عن أنفسنا يندرج في المظاهر المعلنة الواضحة في حين ما يظل خفيًّا عن الوعي بالذات يدخل في المظاهر الضمنية، وذلك يعني بقول آخر إن دراسة الذاكرة الإنسانية تؤكد أن آليات المخ تقوم بالتذكر بشكل واضح وصريح في حين أنها تقوم أيضًا بتخزين معلومات بشكل ضمني أي بلاوعي، وكل من العمليتين في تخزين المعلومات تشكلان الأنا وتحافظان على بقائه، فطريقة الإنسان في السير والكلام مثلًا هي وظائف نقوم بها بناء على الخبرات السابقة ولكنها تحدث ساعة وقوعها خارج نطاق الوعي.
فالالتقاء هنا يتم مع التقسيم الذي قال به فرويد للوعي بمرتبتين: أي مرحلة "ما قبل الوعي" وهي في متناول الإدراك ولكن ليس بشكل فوري واللاوعي وهو يستعصي على الإدراك.. وبرغم شبه التوافق بين مفاهيم فرويد و لودو فإن الأخير يشدد على أن مفاهيم فرويد ليست هي ما يقصده حتى ولو كانت المصطلحات هي ذاتها لأن المضمون الذي تحمله يختلف لدى كل منهما.
نحن أمام اختلاف بين علماء دراسة الأعصاب والعقل البشري فيما يخص حرية الفرد في سلوكه ومحاولة التقرب مما يقول به التحليل النفسي بشأن دور اللاوعي الحاسم، وسوف تتعقد تلك المسألة أكثر برأي مدارس أخرى في العلوم الحيوية ودراسة الأعصاب حينما تنظر للعامل البيولوجي كعامل أساسي في توجيه السلوك أي تأثير العامل الوراثي كعامل حتمي ونفي كل دور لما يقول به من يمنحون اللاوعي الدور الحاسم.. وسوف نناقش تلك المسألة في الحلقة التالية.

بقلم د. مصطفى نور الدين
العدد الرابع - يوليو 2012
مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة 

إشتباك - بقلم نزيه أبو نضال


سليمان فيا

فصل من "نميمة" سليمان فياض





حين دعاني الصديق أسامة عفيفي مشكورًا للمساهمة في هذا المنبر الثقافي المتميز (المجلة) كان أول ما واجهني سؤال عن الموضوع الذي سأتناوله، ويهمّ المتلقي المصري والعربي، وجاء الجواب سريعًا من خلال هذا المشترك، غالب هلسا، الذي قضى 33 عامًا من عمره في خضم  الحياة الثقافية والسياسية المصرية صديقًا لمبدعيها، وشريكًا في ندواتها ومعاركها الأدبية، ومساهمًا في إصدار واحدة من مجلاتها المتميزة (جاليري 68)، وعن هذه التجربة يسلط علاء الديب الضوء على أحد أهم الملامح التي ميزت الصداقات الصلبة التي أحاطت بغالب هلسا في مصر قائلًا: "حين تكونت مجموعة جاليري 68 كانت من أهم الصداقات التي صادفتها في حياتي هي صداقتي بغالب هلسا".


 كان غالب رفيقًا لمناضلي اليسار المصري، وزميلًا  لهم في المعتقلات والسجون، حيث جرى اعتقاله عام 1959، مع سيد حجاب وعبد الحكيم قاسم وآخرين، ثم اعتقاله في تشرين الأول 1966 الذي دام لمدة 6 أشهر، مع جمال الغيطاني وصبري حافظ ويحيي الطاهر عبد الله وغالي شكري وإبراهيم فتحي وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وآخرين، بتهمة الانتماء إلى تنظيم "وحدة الشيوعيين"، ورغم أن غالب، كما أخبرني د.صبري حافظ، "لم يكن منظمًا فعلًا في الحزب فإنه أصر على عدم استنكار الحزب، وعلى مقاسمتهم نفس المصير، وقد تميز سلوكه خلال فترة الاعتقال بروح قيادية عالية وبإيثاره لزملائه، فاستحق بجدارة لقب "النبيل".
  ويقول عبد الرحمن الأبنودي: "في المعتقل كان معي الروائي جمال الغيطاني، وصلاح عيسي، والكاتب الأردني غالب هلسا الذي له فضل كبير على جيل الستينيات ولم يأخذ حقه الأدبي".

 وقد تجلَّت مصرية الأردني غالب هلسا في معظم انجازه الروائي: مكانًا وشخوصًا وحوارًا، ربما باستثناء روايتيه "ثلاثة وجوه لبغداد" و"سلطانة". 
لقد احتل غالب مكانة متميزة بأقلام العديد من كبار كتاب مصر ومواقف مبدعيها، ومن بينهم نجيب محفوظ الذي أشاد به في أكثر من حديث إذاعي، وللمصادفة أنني تعرفت على غالب في ندوة محفوظ الأسبوعية، بدايات الستينيات، في كازينو صفية حلمي، وبعدها في مقهى ريش، ثم تواصلت صداقتي مع غالب إلى ليلة وفاته في مستشفى الأسدي بدمشق، 18ديسمبر1989.

ولقد أحصيت في كتابي "غالب هلسا ومصادره الكتابية" أسماء عدد من كبار الكتاب المصريين الذين تناولوا غالب وإبداعه، وبينهم من قدم عنه أكثر من كتابة وشهادة، ومنهم (أبجدياً): إبراهيم فتحي، أحمد بهاء شعبان، إدوار الخراط، بهاء طاهر، جابر عصفور، جميل عطية إبراهيم، سعيد الكفراوي، سلوى بكر، سمير فريد، شوقي بدر، صبري حافظ، عبد المنعم تليمة، عبد الرحمن أبوعوف، عبد الرحمن الأبنودي، علاء الديب، علي الراعي، غالي شكري، فاروق شوشة، ماهر شفيق فريد، محمد البساطي، يوسف القعيد.

صبرى حافظ وغالب هلسا

كما قدمت مجلة "أدب ونقد"، في عدد حزيران (يونيو) 2008،  ملفًا خاصًا تضمن أعمال غالب هلسا بعنوان "غالب هلسا من الخماسين إلى السؤال" أعده وقدم له د. ماهر شفيق فريد.. وكانت مجلة فصول المصرية قد أصدرت في عددها الأول من المجلد الثاني عشر 1993 ملفًا خاصًا عن غالب هلسا، قدمه جابر عصفور، وأسهم فيه كل من إدوار خراط وعلاء الديب ومحمد برادة ــ المغرب ــ وعلي جعفر العلاق ــ العراق ــ ثم بالطبع صديقه اللدود سليمان فياض الذي نفرد هذه المساهمة لفصل كتابه "النميمة" عن "المغترب الأدبي" غالب هلسا
****
يحتار قارئ "كتاب النميمة" للقاص الكاتب المتنوع سليمان فياض(1) في تصنيف هذا العمل الأدبي الذي أسماه صاحبه "كتاباً"، فيما اعتبره في مقدمته قصصًا لـ "نماذج وأنماط من الناس عامة، والكاتبين خصوصًا الذين عرفتهم عن قرب خلال رحلة العمر"، وكان من بينهم الروائي والكاتب الأردني غالب هلسا.
 هذا الكتاب، كما يعترف صاحبه، قريب من تجارب أخرى سابقة مع الاختلاف في الأسلوب، مثل كتاب نعمان عاشور "مع الرواد" ومحمود تيمور "بين المطرقة والسندان" وما قدمه مكسيم جوركي في كتابه "صور أدبية".

 في واقع الحال هذا العمل الإبداعي هو مزيج من القص والشهادة والمذكرات والسيرة الغيرية، ولعله أقرب، في معظم فصوله إلى اللوحة القلمية أو كتابة البورتريه، كما عند: محمد مندور، أنور المعداوي، عادل كامل، صلاح عبد الصبور، بهاء طاهر، وبالطبع غالب هلسا الذي  لقبه بـ"المغترب الأبدي" (صفحة 22)، ثم أغفل اسمه، عندما بدأ بكتابة النميمة (صفحة 169) ليكون أكثر حرية، ولتكون الكتابة بشروط سليمان فياض، وبعيون فلاح فصيح قادم من الريف المصري (السنبلاوين) إلى القاهرة، ليدرس اللغة العربية في جامعة الأزهر.

إنه سجل توثيقي للحياة المصرية، ولجيل كامل من المثقفين والأدباء المصريين، ومع هؤلاء الكتاب غالب هلسا القادم من الجنوب الأردني، لدراسة الصحافة في الجامعة الأمريكية في القاهرة، كان ذلك عام 1955، آنذاك تواصلت العلاقة بين غالب وبين سليمان فياض، إلى أن قام نظام السادات، في أعقاب اتفاقات كامب ديفيد، بترحيل غالب، من القاهرة، إثر تنظيمه مؤتمرًا لمناهضة التطبيع، واستمر أربعة أيام، وذلك في تشرين أول (أكتوبر) من عام 1976.. ليواصل من منفاه البغدادي رحلة اغترابه إلى بيروت وعدن وسوريا.. إلى أن عاد إلى وطنه، في أواخر كانون أول (ديسمبر) من عام 1989، ولكن في كفن.
حين سئل سليمان، بعد صدور "النميمة" من يكتب عنك بورتريهًا دقيقًا؟ بمعنى: يهتم بذكر سلبياتك قبل إيجابياتك؟ أي من ينمّ عليك؟
أجاب: ليس هناك من (ينمّ علي) أفضل مني وسأكتب بورتريه نميمة عن نفسي.
 وحين سئل: ماذا ستسميه؟                             
قال: "الأبْلَهْ".

ولعل كمية الصدق في شهادات سليمان تنم عن هذه الحقيقة وعن صراحة بلا حدود، بل تفيض أحيانًا، غير أن كاتبها احتاط للأمر بالقول "ولا أنكر أن فيها قدرًا من التصورات والتحليلات والانطباعات، بل أيضًا التخيلات سعيًا إلى تحقيق قدر من الحبكة والإبداع في القص قد تتجاوز الوقائع الحقيقية.. لكنها دائمًا تسعى إلى تجسيد روح.. من عرفت".
وأضيف: وقد يلعب الزمن والروايات المتباعدة والمتناقضة، كما المشاعر الملتبسة، دورها في قلب الحقيقة كقول سليمان: "إن غالب قد غادر طرابلس لبنان إلى عدن، عبر قناة السويس".. ولكن تلك كانت سفينة ياسر عرفات التي غادرت ميناء طرابلس في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1983، وكان غالب آنذاك، وهذا أمر هام، على صعيد الموقف السياسي والفكري الملتزم لغالب، في موقع الانتفاضة الفتحوية المضادة لعرفات بدمشق، أما رحلة غالب البحرية إلى عدن فكانت إثر سقوط بيروت، أيلول (سبتمبر) 1982.

 كما أن غالب لم ينتحر بسيانيد البوتاسيوم، كما أحب سليمان أن يصدق أو يوحي، رغم أنه أورد رواية أخرى عن موته بالجلطة، في طريقه إلى المستشفى، ولكن الحقيقة، وكنت مع غالب هناك ليلة وفاته، أنه أبلغ الطبيب بأن ما يعانيه من آلام هي مجرد أعراض متكررة لمرض القولون وليس القلب.. وهنا أخطأ الطبيب بعدم الانتباه إلى حالته القلبية.. فكان أن مات صباح اليوم التالي بالجلطة، كان ذلك في مستشفى الأسدي بدمشق، يوم 18 ديسمبر1989، مكمِّلًا دورة حياة كاملة.. فقد كان ميلاده في 18 ديسمبر1932.

مشاعر سليمان فياض المتناقضة، كما سنرى، جعلته ينفي ما سماه بـ"أكذوبة الحكم بالإعدام التي أشاعها المغترب الأبدي عن نفسه طوال سنوات إقامته في القاهرة" فيقول: "سألت صديقًا أردنيًا مسئولًا يعمل بمنصب كبير كان يزور القاهرة في صحبة وفد سياسي، في العام (1970) الذي ودع فيه عبد الناصر الحياة، عن محنة المغترب الأبدي المحكوم عليه في وطنه بالإعدام، لأنه كان يومًا يساريًا.. فضحك هذا الصديق طويلًا وضرب كفًا علي كف وقال لي: لم يحدث ذلك قط، أنا أعرف أهله من البدو كل ما واجهه فترة، وإثرها غادر الأردن باختياره، ولم يعد حتى اليوم.

وقال لي الصديق المسئول: أنا مستعد الآن أن أصحبه معي ليزور الأردن، ويبقي بها إذا شاء، ويعمل بها في منصب مرموق، مثله مثل أخيه في الأردن، وخصوصًا أنه الآن كاتب مرموق في الوطن العربي، ويعود إلي القاهرة إذا شاء في أي وقت، ومعه جواز سفر دبلوماسي، لأي مكان في العالم.. بل إنه قال لي: إنني مستعد لأصحبه وأنت معه لمقابلة الملك، وسوف تسمع الترحيب به في وطنه بأذنيك ومن الملك نفسه".
لقد أحب فياض، كما يبدو أن يصدق هذه الرواية التي أوردها (أو تخيلها) على لسان من أسماه بصديق أردني مسئول! ودون أن يذكر اسم هذا الصديق، ولا ندري لماذا؟! لكن يبدو أن الخيال القصصي لفياض قد تدخل في هذه الحوارية أكثر مما يجب، فالقول مثلًا بأن غالب كان عند وفاة عبد الناصر (1970) كاتبًا مرموقًا في الوطن العربي، بما يبرر استقباله الفائق أردنياً، وأن ينال من الملك جوازًا دبلوماسيًا، هي معلومة مضللة تمامًا.. ففي ذلك العام لم يكن غالب قد أصدر سوى مجموعة قصصية يتيمة هي "وديع والقديسة ميلاده"، 1968، ولا أدري في أي شهر من عام 1970 (زمن الحوار المذكور) صدرت روايته الأولى "الضحك".. ودون أن يصل أي من الكتابين إلى الأردن، فالرقابة آنذاك كانت تكبل الأقلام والرقاب!.

فكيف أصبح غالب آنذاك، كاتبًا عربيًا مرموقًا؟ ومتى منح كاتبُ في الأردن أيًا كانت درجة (مرموقيته)! جوازًا ملكيًا دبلوماسيًا؟!..
غالب هلسا ونزيه ابو نضال

غالب بالطبع لم يكن محكومًا عليه بالإعدام في الأردن، ولكنه بعد خروجه من سجن الجفر الصحراوي حكم عليه بالإقامة الجبرية في مادبا، عام 1953، ومن هناك هرب إلى عمان، متخفيًا، ليمارس نشاطه السري في صفوف الحزب الشيوعي الأردني، ثم تمكن من المغادرة إلى بغداد للدراسة الجامعية (1954) ولكنه طرد من هناك، بسبب نشاطه السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.. فسافر إلى القاهرة للدراسة، عام 1955.. وكان قبل ذلك قد أعتقل في لبنان (1951) لتوزيعه منشورات سياسية في طرابلس وبيروت مع مناضلي الحزب الشيوعي اللبناني.

 في ذلك الوقت، من منتصف الخمسينيات، كانت الأحزاب اليسارية والقومية مطاردة، وفي المعتقلات والسجون أو في المنافي، خصوصًا في سوريا ومصر، وكان غالب ببساطة واحدًا من هؤلاء، ربما، أقول ربما، كان بإمكانه أن يعود في السبعينيات أو الثمانينيات، ولكنني أنا شخصيًا، حاولت العودة في أواخر الثمانينيات وفشلت، بل ومنعت رسميًا، كما أبلغتني السفارة الأردنية بدمشق، رغم أنه لم يكن قد صدر بحقي أي حكم، لا بسجن ولا بإقامة جبرية.. ورغم أنني أبلغت السفير محتجًا بأن من حقي العودة إلى وطني، ولأحاكم هناك، ولتعلق مشنقتي في ساحة المسجد الحسيني بعمان، ولكن يكون جواز سفري في جيبي.. هذا من حقي، فرد السفير: لا .. ليس من حقك.. واستمر منعي بعدها لسنوات!! كان قد صدر لي آنذاك أكثر من عشرين كتابًا في الفكر والنقد الأدبي، وكنت رئيسًا لاتحاد كتاب فلسطين في لبنان مدة عشر سنوات، ولم يشفع لي ذلك بمجرد (لاسيه باسيه) أي وثيقة مرور من السفارة أو المخابرات الأردنية للعودة إلى وطني! فكيف بجواز دبلوماسي ملكي؟!!
****
إن شهادة سليمان فياض، عن مرحلة غالب هلسا القاهرية، في فصل المغترب الأبدي من "كتاب النميمة"(1) تمتد إلى أكثر من عشرين عامًا، وهي تكمل بامتياز شهادة صديقه الدكتور صالح حمارنة عن مرحلة غالب الأردنية بين ماعين ومادبا وعمان، والتي امتدت زهاء 13 سنة، وذلك في كتابه غالب هلسا الأديب الرافض(2) ولعلي أكون الشاهد الثالث الذي تواصلت معرفتي بغالب متقطعة في ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية أوائل الستينيات، ومتواصلة معه في بيروت ودمشق منذ أواخر السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، والطريف أننا بجمع السنوات التي تواصلنا بها تصل كذلك إلى حوالي 13 سنة، وقد سجلت هذه التجربة في كتابي "غالب هلسا"(3)، ولعل د.ضياء الخضير في كتابه "حكاية الصبي والصندوق" (4)، دار أزمنة، عمان، 2003، قد غطى جانبًا من تجربته البغدادية (1976-1979).

 وأنت تقرأ (نميمة) سليمان على غالب تكتشف بسهولة مشاعر متناقضة تراوح بين تفوق مثقف مصري على بدوي شرق أردني.. ولكن هذا البدوي يفرض عليه إحساسًا بالدونية.. فهو يتقن الانجليزية، ويقرأ بها ويترجم أمهات الكتب الأجنبية.. فيما يعترف سليمان "لا أعرف من اللغة الانجليزية أو الفرنسية حرفًا لا قارئًا ولا كاتبًا".. ثم إن غالب، كما يصفه، قاص كبير ومتميز وناقد حصيف، بأن "المغترب الأدبي قد صار نجم الأوساط الثقافية الأدبية في بضع سنين" بل صارت شقته في الدقي صالونًا أدبيًا يلتقي فيه أبرز كتاب مصر مساء كل خميس، ويذكر سليمان منهم: بهاء طاهر وأبوالمعاطي أبوالنجا ومحمد البساطي ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم منصور، وبالطبع سليمان فياض.. وعن شقة الدقي كتب علاء الديب روايته "أيام وردية"(5).

 وغالب، كما يلاحظ الفلاح المصري الفقير والمجاور الأزهري، يرتدي الأنيق والفاخر من الثياب تمنحه حالة من التفوق الطبقي والاجتماعي "كان المغترب الأبدي كث الشعر متموجة، يجمعه كعرف الديك أعلى جبهته، وكان نظيفًا متأنقًا، القميص أبيض ناصع، وياقة القميص عريضة منشاة، والكرافت معقودة بعناية عقدة كبيرة، والجاكيت مغلق الأزرار، وكسرة البنطلون مثل حد السيف، ووشى لي وجهه بسلالته اليونانية، وتوقفت عيناي عند حذائيه السوداويين اللامعتين"، وفوق ذلك فهو يتلقى راتبًا كبيرًا كمترجم في وكالة أنباء أجنبية (صينية ثم ألمانية شرقية)، أي أن غالب كان يمتلك كل ما يفتقده سليمان.. وصورة غالب هذه ظلت تستدعي عند الفلاح المصري الفصيح صورة الكتَّاب البوهيميين الأجانب غير الملتزمين أو المنتمين، رغم أن غالب ظل على الدوام منخرطًا في صفوف اليسار الشيوعي العربي، وربما كان الوحيد الذي انخرط في صفوف أربعة أحزاب شيوعية عربية هي الأردني واللبناني والعراقي ثم المصري، حيث أعتقل عدة مرات خلال وجوده في مصر، وبعد سنوات طرد، بسبب التزامه، من مصر إلى بغداد، ومنها إلى لبنان حيث التحق في صفوف الثورة الفلسطينية، وخلال الاجتياح الصهيوني لبيروت 1982 كنا معًا في إذاعة الثورة، ولكن غالب ظل في الخنادق القتالية المتقدمة يجري الحوارات المسجلة مع المقاتلين، وإلى جانبه سقطت شهيدًة زميلتنا الإذاعية اللبنانية "نعم فارس".

 فهل هذه أوصاف كاتب بوهيمي كما يصف فياض غالب هلسا..!!
 ولكن غالب ظل إلى جانب ذلك، ورغم ذلك، ابن الحياة وعاشق النساء والفرح، وقد اختصر كل ذلك بعبارته الشهيرة "أنت لا يمكن أن تكون بطلًا 24 ساعة في اليوم".
 وبسبب ذلك ربما وصفه فياض بالمغترب الأبدى وبأنه "اختار لنفسه أن يكون متفرجًا غير منتم لشيء حتى للنضال، إنه يتفرج، شاقته لعبة التفرج والنظر من ثقب الباب".
وربما من ذات الثقب لم يشاهد سليمان فياض سوى جانب واحد من الحقيقة.. كان ذلك مجرد وجه من وجوه غالب المتعددة.



(1) سليمان فياض "كتاب النميمة"، فصل المغترب الأبدي، دار مصر المحروسة، القاهرة، 2006.
(2) د. صالح حمارنة غالب هلسا الأديب الرافض، دار أزمنة، عمان، 3011 .
(3) نزيه أبو نضال، "غالب هلسا" وببليوغرافيا مصادره الكتابية، وزارة الثقافة عمان، 2002.
 (4) د.ضياء الخضير، "حكاية الصبي والصندوق" ، دار أزمنة، عمان، 2003.
(5)  علاء الديب، "أيام وردية"، رواية،  دار الهلال، القاهرة، 2002.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·   نزيه أبو نضال، كاتب وناقد، اسمه الحقيقى غطاس جميل صويص، ولد بتاريخ 20/1/1943 في عمان/ الأردن، التحق بجامعة القاهرة 1963، ولكنه غادرها في السنة النهائية، والتحق مقاتلًا في صفوف الثورة الفلسطينية، في العام 1967. يحمل شهادة ليسانس آداب/ جامعة القاهرة/ 1972 ودبلوم ماجيستر/ جامعة بيروت العربية/  1978.
شغل عدة مواقع ثقافية من بينها: رئيس اتحاد الكتَّاب والصحفيين الفلسطينيين في لبنان 1974-1982.. ومدير عام الاتحاد العام للأدباء والكتَّاب العرب، عمان، 1993-1996 ومقرر اللجنة العربية لمقاومة التطبيع الثقافي فيه.
له أكثر من ستين مؤلفًا خاصًا ومشتركًا منها: مواجهات سياسية، جدل الشعر والثورة، الثقافة والديمقراطية، أدب السجون،علامات على طريق الرواية في الأردن، روايات وروائيون من الأردن (بالإنكليزية)، غالب هلسا، تمرد الأنثى، التحولات في الرواية العربية، حدائق الأنثى، شهادات روائية، الكاشف الفلسطيني 6 أجزاء.
·  سليمان فياض كاتب وروائى مصرى ولد سليمان 7/2/1929 بقرية برهمتوش، مركز السنبلاوين. محافظة الدقهلية، ونال شهادة العالمية من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، 1956، وشهادة العالمية مع الإجازة في التدريس، 1959
وقد تنوعت مؤلفاته في ثلاثة محاور: إبداعي: ويضم تسع مجموعات قصصية، وخمس روايات، ومحور الكتابة للناشئة، ومحور الأعمال اللغوية والفكرية، منها 11 معجمًا وكتابًا لغويًا، و3 كتب تتناول قضايا فكرية.



بقلم نزيه أبو نضال 
مجلة المجلة - يوليو 2012

Thursday, July 12, 2012

أصداء - بقلم أسامة عفيفى



المجلة...؟! لماذا الآن
بقلم أسامة عفيفى 

سألتني مندهشة:.. المجلة..؟!! لماذا الآن؟!.. هل هو الحنين للماضي؟! أم التمترس خلف اسم محترم لضمان التوزيع؟!ابتسمت وقلت: بل إن موعدها الطبيعي يا سيدتي الآن... هذه المجلة كانت منارة صرحية للمعرفة والعقل منذ الخمسينيات، وحتى إغلاقها في منتصف السبعينيات...

أسسها مثقفو مصر في الخمسينيات عندما اكتملت ثورية ثورة يوليو – بالتحديد – بعدما انتصرت مصر ضد العدوان الثلاثي في معركة التأميم، واكتمال وعي الثورة الثوري التحرري، وقيادتها لمعركة الأحلاف، وتأسيس عدم الانحياز، واعتلاء مصر مكانها الطبيعي في قيادة حركة التحرر الوطني عربياً، وأفريقياً، وعالمياً...

في هذه اللحظة التاريخية الفارقة كانت القاهرة بحاجة إلى "دورية ثقافية" تربط مصر معرفياً بالعالم، وتؤسس تياراً عقلانياً ينشر الوعي في ربوع الوطن العربي... فالمعرفة، والعقلانية يشكلان معاً الركيزة الأساسية للحداثة المجتمعية التي هي بوابة التقدم، والحرية، والعدل..

ولقد أخلص لهذه الرؤية رؤساء تحريرها الرواد "د. محمد عوض محمد، ود. حسين فوزي، ود. علي الراعي، ود. يحيي حقي، ود. شكري عياد، ود. عبد القادر القط.." واستطاعت المجلة عبر مسيرتها أن تؤسس منهجاً معرفياً عقلانياً؛ فتحولت إلى منارة ثقافية ترسل إشعاعها الفكري الحر من القاهرة إلى كافة أطراف الوطن العربي.

وعندما أغلقها "السادات" في أول السبعينيات هي وست مجلات أخرى فيما عرف بقرار "إطفاء المصابيح الثقافية" كان يمهد – بوعي – لسلخ مصر عن جسدها العربي، وتقليص دورها التحرري في أفريقيا، والعالم الثالث – لتتقوقع داخل حدودها.. مقلمة الأظافر – كما أرادها المشروع الأمريكي المعد للسيطرة على المنطقة.

فتمت جريمة تجريف الوعي، والمعرفة، والعقلانية لصالح الطبقات الطفيلية، والرأسمالية التابعة، والتيارات العنصرية اللاعقلانية المتعصبة ضيقة الأفق.. تلك التي سادت المجتمع منذ منتصف السبعينيات وحتى إسقاط نظام "مبارك" في 25 يناير 2011.

قالت: إذن أنت ترى أن ثورة 25 يناير تحتاج مجدداً لنفس المطبوعة مرةً أخرى.. أو بمعنى أدق لنفس الدور؟! أليس كذلك؟!

قلت: هذا بالضبط ما أراه ضرورياً الآن، فالثورة قامت ضد الاستبداد، والفقر، والتخلف، والتبعية لتحقيق مجتمع الحداثة الجديد الذي سيحقق الحرية، والعدالة، والتقدم، والاستقلال الوطني الحقيقي.. ولا حداثة بدون المعرفة، والعقل. هنا يصبح اسم "المجلة" رمزاً، ورايةً خفاقةً ينبغي أن نلتف – نحن المثقفين – حولها لتعود من جديد لنسطر فيها اجتهاداتنا، وإبداعاتنا لأنها "سجل الثقافة الرفيعة" الذي هو سجل المعرفة، والعقل.. سجل الحداثة المنفتح على التجارب الإنسانية يأخذ منها ويعطيها فتعود الحيوية إلى روح الأمة، وتتحول الطاقة الثورية التي هدمت نظام مبارك الفاسد في 25 يناير،

إلى طاقة هائلة لبناء المستقبل الذي يحقق إنسانية الإنسان.

لذا فعودة "المجلة" فعل ثوري، يستهدف فتح أبواب المعرفة التي هي حقٌ أصيل من حقوق الإنسان العربي، وإعلاءٌ من شأن العقل الذي هو أجمل ما وهب الله للإنسان.

لنحارب الاستبداد والعنصرية والدجل والخرافة والتخلف والتبعية التي فرضت على هذه الأمة منذ منتصف السبعينيات وحتى رحيل مبارك، فالمجلة كانت وستظل ساحةً تتسع للآراء والاجتهادات تؤمن بالتجاور من أجل التحاور الخلاق الذي يتسع صدره للجميع.. ولا يضيق بخلاف أو اختلاف وستظل أيضاً سجلاً لآراء واجتهادات وإبداعات عقول الأمة العربية في سعيها المخلص لتحديث المجتمع العربي ليتجلى نور العقل.. وجمال المعرفة




بقلم أسامة عفيفى
العدد الأول - إبريل 2012 
مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة

Friday, June 29, 2012

قصة قصيرة - بقلم أحمد الخميسى


جلباب مواطن 
أحمد الخميسي

بالطبع كان محمود حزينا على سعد ، أليس أخوه ؟ والظافر لا يخرج من اللحم . أيضا سعد غلبان ، طول عمره غلبان . كوخ على طرف غيط الحاج أبواسماعيل وبس . لا امرأة ولا عيل ولا حاجة . يخدم ساعتين بالنهار في أرض الحاج مقابل بقائه في الكوخ ، وبعدها يسرح على رزقه ، مطرح ما يلاقي لقمة يمشي . الله يرحمك ياسعد . الأعمار بيد الله ، هو الذي يعطي وهو الذي يسترد ، المشكلة كانت في جلباب خليفة

في الشهرين الأخيرين مرض سعد بشدة . سخنوا له نعناع وسقوه،ثم حلبة حصى ، وطحنوا له ثوم ، لكن لم يتحسن ، أخيرا حن عليهم الحاج أبو اسماعيل بفرخة ، وقال لهم " أظن بعد كده لازم يختشي ويفوق". ذبحوا له الفرخة والتهمها سعد في دقيقة كأنما بعث ، وشرب شوربتها ، لكن بعدها بساعة واحدة بس عاد يئن كما من قبل ويعض بأسنانه على شفتيه المشقوقتين المتورمتين ويضغط على بطنه وهو يتلوى على الأرض . نقلوه لعيادة المركز . فحصه الدكتور وقال " يحتاج عملية في مستشفى كبيرة . لازم يروح مصر". 
أخوه يتركه يموت يعني ؟
دار محمود ولف حتى جمع أجرة السيارة ومصاريف المشوار شوية من كل نفر ، بالسلف والدين . وفي الليلة التي سبقت نقله لمصر قالت له زوجته " أنت يا محمود ح تنقل أخوك بجلابيته اللي عليه ؟ في مصر إن  لقوه وسخ كده يمكن ما يدخلهوش عندهم ". تطوع خليفة جارهم وهو يشرب الشاي بإعارتهم جلباب أزرق من عنده ، وأقسم بالله العظيم ألا يردوه إلا بعد رجوع سعد بالسلامة . شكره محمود بتأثر واعتذر له " معلش ياخليفة عشان مايصحش يظهر قدام دكاترة مصر بجلابية مقطعة ، ولامؤاخذة وسخة " ، ورد خليفة بأريحية " وهي الجلابية ح تطير يعني ؟
في الصباح أقاموا سعد على حيله بالكاد ، يمسكوه من ناحية يفرط من ناحية ، في الآخر ألبسوه الجلباب وهو يتطوح وشفتاه ترتجفان كأنما يريد أن يقول شيئا . ومع تعب المشوار إلي قصر العيني إلا أن محمود ارتاح بعد أن سلمه لهم ، وفرشوا له  مؤقتا مرتبة على بلاط الطرقة حتى يجدوا له سريرا . وانحنى محمود عليه يودعه زاعقا في أذنه " أنت زي الفل ياسعد ، ما تقلقش " ، وقبل أن يغادر أوصى ممرضا أن يتصل بهم عند الضرورة
لم ينقض الأسبوع إلا وكان محمود قد تلقى خبر وفاة سعد حتى قبل أن يجدوا له سريرا . دمعت عيناه وهز رأسه " الله يرحمك يا سعد . عمرك ما أذيت حد ". قالت  زوجته " روح لهم مصر خليهم يدفنوه في مقابر الصدقة ، لأن مافيش فلوس لا نجيبه ولا نعمل له عزاء ". تساءل محمود مجرد تساؤل " يعني ما يندفن جنب أبوه وأمه ؟". مصمصت شفتيها " يعني إحنا معانا ومش عاوزين نجيبه ؟ نعمل إيه بس يا محمود ؟". أضافت "ماتنساش تجيب معاك جلابية خليفة

في الفجر توكل محمود على الله وشق طريقه إلي مصر . ووقع في المستشفى طلبا  بدفن سعد في على حساب الحكومة ، وقال له الموظف " نكتب حيث أنه معدم ". ولق محمود الكلمة في رأسه وقال برجاء " ممكن نقول كلمة تانية غير معدم ؟ ". نهره الموظف " لاء . معدم "


انتهى من الإجراءات ، وذهب يلقى نظرة أخيرة على سعد . أمسك بيده المدلاة بجواره واعتذر له " ماتزعلش يا سعد ، مش بإيدي . وكتاب الله مش بإيدي" . ثم انصرف بسرعة ليستفسر عن متعلقات سعد فأجابه رجل من وراء شباك " أي متعلقات ؟ " . قال " كان جاي بجلابية مش بتاعتنا ولازم نردها " . نظر الرجل في دفتر أمامه وقال " ما عنديش شيء متسجل باسم سعد ، لا جلاليب ولا فلوس ولا أي حاجة " . ممرض ما كان واقفا يدخن قال لمحمود " كنت سألت قبل الغسل ، يمكن الجلابية اتقطعت ولا اترمت ". رجل عجوز ببيجامة واضح أنه في المستشفى من زمان اقترب منه وهمس له " إطلع للمدير في الدور الثاني واشتكي . حقك لازم تآخده " . ظل ساعة أمام باب حجرة المدير حتى دخل ، ووقف أمام المدير وقال مرتبكا ما بين الحزن وما بين الخجل من أن الموضوع صغير " سيادتك أخويا جه المستشفى بجلابية ومات ومحتاجين الجلابية مش بتاعتنا ". قال المدير باستغراب " جلابية إيه ؟ الكلام ده في الأمانات مش هنا ". فقال موضحا " سيادتك أنا سألت قالوا مافيش . ولامؤاخذة أنا عارف إنه جه بجلابية ". قلب المدير شفته قائلا " يعني عاوزني أسيب شغلي وأقعد أشوف مين ضاعت له جلابية ومين راح له لباس؟ الناس دي إيه ؟". وأشار برأسه إلي الباب " تفضل"، فتراجع محمود بظهره حتى خرج وهو يردد " لا مؤاخذة

هبط على السلالم ليغادر المبنى . حتى لو سكت خليفة الأيام القادمة فلابد أنه سيطالب بحقه بعد ذلك . وخليفة هو الآخر أجري على باب الله ، وصاحب حق . عندما اقترب من البوابة سمع صيحات هادرة وضوضاء ، وخرج إلي الشارع فشاهد بحرا من البشر الغاضبين ، ناس يحملون يافطات ويزعقون ، وناس محمولين على الأكتاف يهتفون بقوة ، وسيارات شرطة ، وبنات تصرخ ، وعيال تجري ، وشابة مرمية على الرصيف. تأمل المشهد بدهشة ، واندفع شاب من خلفه فأسقطه على الأرض . نهض وتلفت حوله ، ثم مشى بسرعة في اتجاه محطة القطارات
   
ركب قطار الصعيد ، ولاحقه مفتش التذاكر، فهبط في الفيوم . الليل في أوله ، و الجوع والتعب يلحان عليه . اشترى رغيف فول وتمشى به في ميدان المحطة يترقب وصول القطار التالي . في الميدان ارتفع صوان ضخم مضاء بالكلوبات ، ومن داخله ارتفعت الأصوات عبر ميكروفونات . تمهل عند المدخل يمضع اللقمة ، ثم مال على عجوز أمام نصبة شاي " إيه ده ؟ " . أجابه الرجل وهو يشطف كوبا في طست ماء " المرشحون للرئاسة " . استفسر " رئاسة إيه ؟ " . رد العجوز باستغراب " ح تكون رئاسة إيه يعني ؟ رئاسة مصر ". من بعد الذهول أحس محمود برهبة من وجوده في مكان كهذا ، ثم أدار عينيه فيمن حوله ، فوجد الناس واقفين دون خوف ، فأرسل بصره إلي داخل الصوان ، ورأي رجلا يهبط من المنصة وآخر يصعد إليها بنشاط ، ثم بدأ الرجل حديثا طويلا عن الحرية التي طال انتظارها ، وهذه فهمها محمود على العموم ، ثم تحدث عن حقوق الإنسان ، وهذه فهم منها محمود كلمة " حقوق " وحدها ، و"الإنسان " وحدها ، ثم وصل الرجل في حديثه إلي كلمة غريبة لم يسبق لمحمود أن سمعها ، إما منبراية ، أو لبرانية ، أو ليبرالية . ولأن الكلمة صعبة في النطق والفهم فقد عطلت متابعته للخطبة ، ولهذا قفز موضوع الجلابية ثانية إلي رأسه ، وقال لنفسه مادام الرجل قد يصبح رئيسا للبلد كلها بحري وقبلي فلابد أن بوسعه حل موضوع صغير لن يكلف الدولة سوى تطبيق العدل . هكذا شق محمود صفوف البشر حتى وجد مكانا لقدميه قرب الخطيب . وما أن أنهى الرجل كلمته وهبط وسط تصفيق أنصاره حتى التصق به محمود وهو يجري خلفه ويقول له " موضوع صغير أعرضه على سيادتك ياريس. موضوع " . توقف الرجل ووضع يده على كتف محمود باهتمام ، فقال له " فيه جلابية في قصر العيني مش عارفين راحت فين ؟ بتاعة خليفة مش بتاعتنا ولازم نردها ". دهشة مكتومة عبرت كسحابة متمهلة وجه الرجل ثم التفت إلي معاون بجواره قائلا " إدي له كارت الحزب "

. وواصل الرجل طريقه إلي خارج الصوان . مرشح آخر تكلم طويلا عن أن سبب كل الكوارث التي حلت بمصر هو تحديدا انعدام الأخلاق ، انهار الاقتصاد لأن التجار بلا خلق يرفعون أسعار السلع ، انهار التعليم لأن المدرس بلا خلق همه أن يربح من الدروس الخاصة ، انهارت الأسرة والعائلة لأنها تسمح لبناتها بالتعري والسباحة بمايوهات بكيني ، وعندما أنهى حديثه لاحقه محمود وشرح له موضوع الجلابية فقال له " تعالي لنا المقر بتاعنا في الجيزة وبإذن الله تخرج راضيا ". أخيرا صعد إلي المنصة بهدوء شخص على ملامحه هيبة العلم ، وتكلم طويلا عن الدستور والبرلمان والانتخابات النزيهة والدولة المدنية . وما إن هبط  الرجل من على المنصة حتى شرح له محمود المسألة ، لكن بفتور وبصوت هامد ، فقال له " أهم حاجة دلوقت الدستور وبعدها كل شيء ح يمشي مضبوط ". وكان تعب اليوم الطويل كله قد حل في قدمي محمود ، فلم تعد لديه حتى القدرة على الرجاء ، رغم أنه لم يفهم ماهو تحديدا الذي سيمشي مضبوط في المستقبل . ومع ذلك ضغط على نفسه مستفسرا " يعني فيه أمل ياريسنا ؟ " ، لكن الرجل لم يسمعه
 
انفض الصوان ، وأعتم الميدان بعد إطفاء الكلوبات ، وركب محمود القطار وساعدته العتمة في الزوغان من المفتش فلم يهبط إلا في المنيا . كانت الدنيا ليل وهو يدخل القرية ، ويتذكر وهو في طريقه للبيت أخاه سعد ، وأمه ، والحياة  الشاقة التي خلت من الفرح وانصبت كلها في العمل الشاق

تطلعت إليه زوجته طويلا وهو يدخل ، بإشفاق ، وارتمى على أقرب موضع وفرد ساقيه أمامه ، من دون أن ينطق بحرف . زوجته هي الأخرى لم تقل كلمة ، اختفت وعادت بكوب شاي ولقمة وكسرة جبن . وبعد قليل سألته " جبت الجلابية ؟ " . هز رأسه بصمت أن لا . قالت بتحسر " وخليفه ذنبه إيه ؟ " . قال " هي ح تروح فين يعني ؟


كان متعبا من المشوار ومن القطار ومن منظر أخيه بوجهه الأصفر ومن ضوضاء الصوان ، وتمنى لو غرق في النوم وهو مكانه . لكنه أحس بحاجة شديدة للهواء  وبأنه يريد أن يتكلم مع من يفهمه ، فخرج من الدار ووقف مستندا بظهره للجدار. يطوقه صمت معتم على الأرض ، وفوقه سماء شاسعة منيرة . تطلع لأعلى ، ونفخ في الهواء بألم " يارب . أنت اللي بتعطي الحياة وأنت اللي بتآخدها . لكن الجلابية مش بتاعتنا ، ولازم نردها ، يارب ".


بقلم أحمد الخميسى
مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة
يونيو 2012





Wednesday, May 23, 2012

الإنسان بين المسئولية والضرورة

الإرادة .. الوهم  

بقلم دكتور مصطفى نور الدين  



هو سؤال قديم حول الفعل الإنسانى، طرحته البشرية عبر العصور فى صيغة " الجبر واللاختيار" و "القضاء والقدر".. هل الانسان هو مالك القرار وصاحب الفعل، أم أن هناك قوانين طبيعية ونفسية واجتماعية تلزمه بالتصرف على هذا النحو دون أن تترك له خيارا آخر، فهو يعمل على نحو قسرى، وأفعاله تحتمها قوانين مقدرة سلفا مثلها مثل القوانين الطبيعية التى تحتم سقوط الأمطار وهبوب الرياح؟

قدمت الأديان والفلسفات إجاباتها عبر العصور، وحاولت العلوم الحديثة أن تكون لها كلمة. ونحاول عبر حلقات هذا المقال أن نقدم بإيجاز اسهامات كل علم على حدة فى حل ألغاز هذه القضية الشائكة.

هل نحن مذنبون أم مسئولون أم ضحايا ؟ هذا الأسلوب في التطرق للموضوع يلوح مثيرا غير أنه مما لا شك فيه أن الإنسان يسأل ويطرح السؤال على نفسه حول سلوكه ودوافعه وحول الأسباب التي جعلته اليوم ما هو عليه وعن تحوله ليصبح آخر عبر الزمن بحيث يجد نفسه أحيانا لا يكاد يتعرف على ذاته وعلى ضميره نفسه في مواقف متنوعة في حياته. هل من إجابة ممكنة على تلك التساؤلات ؟

ليست قضيتنا في هذه السطور إلقاء نظرة شاملة على الإنسان في المجتمع بما يحيطه من أسباب تدفع لفعل ما. الذي نتقصاه هو الإنسان من داخله ككائن وهل هناك ما هو غير منظور للعين يقف خلف السلوك بكل أنواعه. ولذا يلزمنا ارتياد المعارف التي حاول فيها العلماء والفلاسفة البحث عن إجابة. أي زيارة تلك المعارف التي بحثت في النفس وفي الجسد في العلوم الحديثة. هذا السبيل محفوف بالمخاطر نظرا لاستحالة الإلمام بكل التفاصيل. والحل الممكن هو التوقف عند بعض التحليلات الهامة والتي لها وزنها في الفكر في دراسة هذه القضايا. أي عدم إدعاء تقديم نظرة شاملة وإنما التعرض للقضايا التي تفتح الباب للتفكير. وبناء على هذا الاختيار نتطرق للخطوط العريضة مع ضرورة التنويه بأن النظرة الذاتية في القضية لا مهرب منها مهما توخينا الموضوعية. فبهذا الطريق تحدث المواجهة بين الأفكار وتثرى.

وسوف نتوقف في هذا المقال الأول عند التحليل النفسي فقط وبالمرجعية لمصطلح واحد وهو "اللاوعي". هذا قليل، ولكنه مصطلح هام وضروري لتتم مواجهة بينه مع علوم مثل دراسة السلوك المستندة إلى علم الوراثة أو دراسة الشخصية بداية من عمل خلايا الأعصاب والأنسجة العصبية وغير ذلك من علوم حديثة تتقدم كل يوم لتكشف لنا أسرارا لم تكن معروفه قبل تقدم التقنيات الحديثة التي تسبر أغوار الجسد والمخ.

والمواجهة بين تصورات لا تعني بالضرورة أن يكون لتصور ما الغلبة على التصورات الأخرى. فالمسألة من هذه المواجهة هي متابعة جهود الإنسان لفهم ذاته ولفهم الآخر، وفتح الحوار بينها لرؤية وتتبع كيف يرسم الإنسان مستقبله بين الحلم والممكنات والمخاطر الاحتمالية.

يقول سيجموند فرويد :"إن الإنسان لا يملك السيطرة على نفسه، فاللاوعي هو الذي يقودونا." ويلخص نظريته بالقول إن "ثلاثة أشياء كبرى نكدت على الإنسان. أول المنكدات ذات طابع كوني بكشف "كوبرنيكوس" أن الأرض أصغر من الشمس وتدور حولها. والثانية بيولوجية عندما قال "دارون" : "أن الإنسان ليس أفضل من الحيوانات وأنه ذاته ينحدر من سلالة منها وتربطه علاقة قرابة لصيقة ببعض من أنواعها". غير أن أكثر المنكدات ألما كانت دون شك التي لحقت بطبيعته النفسية، فالتحليل النفسي يؤكد على أنه برغم كل ما يسود من مظاهر ومعتقدات فإن الإنسان أو "الأنا ليس سيدا في منزله وأنه لم يكن أبدا المسيطر على نفسه."[ii]

تلك النظرة تستلزم التوقف عند التحليل النفسي كفرع من فروع المعرفة والحدود التي يملكها لتسمح له بالقول بمثل تلك الفكرة القطعية حول السر خلف السلوك الإنساني أيا كان هذا السلوك. ولكي نحدد تلك الحدود يلزم أن نرى ما تقوله العلوم الأخرى حول التحليل النفسي وكذلك ما يقوله علماء التحليل النفسي.

كانت فلسفة العلوم من أول من ناقش نظريات التحليل النفسي بموضوعية فكتب العالم "كارل بوبير" مطولا ووضع تحفظات عليها بقوله :"فيما يخص نظريات التحليل النفسي يستحيل ببساطة وضعها موضع اختبار وكذا لا يمكن دحضها. فليس هناك أي سلوك بشري يمكن أن يتناقض معها. وهذا ليس معناه أن اسهامات كل من "فرويد" و"ادلر" خالية من تمثل فعلي لبعض الظواهر. وأنا على يقين من أن قسما كبيرا مما يقولون به حاسم وسيكون له مكانة لاحقا في علم نفس علمي يخضع للاختبار والقياس."[iii]

أما فيلسوف العلوم "ادولف جرونبروم" فيتخذ موقفا معارضا لتلك الأطروحة ويقول بأن التحليل النفسي ما هو إلا علاج وهمي بديل ويبلور رأيه بعبارته : "ليس هناك ما يمنع اعتبار جلسات التحليل النفسي ناجعة مثلما هو الحال بالشفاء بتناول دواء بديل يخلو من المواد الفاعلة." (يمكن الاستشهاد بالتجارب التي تجرى على عينتين من المرضى يعانون الداء نفسه. فبدون معرفتهما يتناول بعض الأفراد الدواء الفعلي لهذا الداء بينما يتناول البعض الأخر ما يقال لهم بأنه دواء وهو في الحقيقة لا تأثير له ولا يدخل في مكوناته مواد لعلاج أي مرض. ولكن لكل من الدوائيين ذات الشكل والطعم. فإذا شفي المريض من الدواء الوهمي يقال ان العامل النفسي والإيحاء هو سبب الشفاء.)

ويستمر جرونبروم بمعارضة فكرة العالم بوبير فيقول بأن التحليل النفسي يمكن التحقق من صحة أو عدم صحة ما يقول به " فأطروحات فرويد لها سمات تنبؤية وبالتالي يمكن التحقق من حدوث ما قالت به من عدم حدوثه." [iv]

هل يعني هذا نهاية التحليل النفسي ؟ سبق أن سمعنا عن نهايات أخرى ؟ نهاية التاريخ، نهاية الأدب، نهاية الفن، نهاية الإيديولوجية بل ونهاية العالم ! تساؤلات وغياب لليقين. عدم يقين بشأن نهاية ما لأن التساؤلات تستمر دون انقطاع. فالتناقضات لدى الإنسان تتجسد في اعتقاده بسهولة أكثر في كل ما يعتبر ظاهرة متعالية تنسب للأديان بينما يشك بما يقوله أمثاله من البشر حتى ولو تميز بعمق وخبرة طويلة في الممارسة.

ولكن تلك الخلافات والنقاش قديم وتستمر حول التحليل النفسي والتساؤل بهل هو علم يمكن الاستناد إليه في فهم الكيفية التي تعمل بها مشاعر الإنسان وإدراك أنماط سلوكه وكيف يتوصل لإيجاد الحلول للمشاكل التي لا تنتهي في عالم يموج بدوامة من التغيرات المادية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فلا يمكن القول بأن كل شيء انتهي. إذ لو كانت المعرفة بالإنسان محاصرة من أمام ومن خلف ومن الجانبين فكيف نتوصل لإيضاح أفعاله وفهم مشاعره ودوافعه وأحكامه في الحياة ؟

ربما ما عقد مشاكل التحليل النفسي هو عدم اكتفائه بالدور العلاجي لمن يعانون من أمراض نفسية بتعميمه والنظر لأطروحاته كما لو كانت صالحة للتطبيق على الإنسان في كل ظرف حياتي وفي كل مكان. إذ حاولت بعض تيارات التحليل النفسي تجاوز حصره في جلسات علاجية فردية وقامت بتقديم تفسيرات للطبيعة الإنسانية بشكل عام وفي كل العصور. وهو مشروع عصيب على فرع واحد من فروع المعرفة التي يزداد تعقدها يوما بعد يوم. والملاحظ أن سيجموند فرويد تحفظ في بدايات حياته بعدم الدخول في تلك المغامرة التي تجعل التحليل النفسى علما مهيمنا يفرض نظرته على المعارف الأخرى التي تبحث في الإنسان. وكتب فرويد حينئذ: "إن التحليل النفسي بحسب ما أراه غير قادر على خلق رؤية للعالم تخصه وحده. وهو لا يحتاج لتلك الرؤية فهو مجرد فرع من العلوم وما يمكن هو أن يتكامل في رؤية مع كل العلوم. غير أن هذه النظرة لا تستحق التضخيم لأنها ليست رؤية بتاتا وإنما رؤية غير كاملة فهي لا تدعى إغلاق الأبواب في تشكل النظام. فالتفكير العلمي مازال يافعا والمشكلات الكبرى، وما أكثرها، لم يتم السيطرة عليها."[v]

وبرغم هذا التصريح فإن كتابات فرويد الأخيرة شهدت محاولة لبلورة نظرة كلية عن العالم من منظور التحليل النفسي مثلما تجلى ذلك في كتبه :"مستقبل وهم" و"قلق فى الحضارة" و" الطوطم والحرام" و"موسى والتوحيد". وتتابع هذا التوجه عند العديد من علماء التحلل النفسي مثل "فيلهيلم رايش" و"إريك فروم" وغيرهما.

غير أن الحد من القيمة العلمية للتحليل النفسي تأخذ قوتها عندما تأتى من أكبر ممثليها المعاصرين. فكلمات صاحب أكبر مدرسة فرنسية في التحليل النفسي "جاك لاكان" تفيد هنا في تحديده للتحليل النفسي وموقعه من المعارف التي تبحث في الإنسان. يقول "جاك لاكان" في أحد محاضراته : "ما سأقوله لكم سوف أقوله وهو أنه يلزم النظر للتحليل النفسي بجدية برغم أنه ليس بعلم. بل أن ليس علما على الإطلاق لأن المزعج في ذلك أنه تم البرهنة عليه بوضوح وبكتابات غزيرة المدعو "كارل بوبير". فهو ليس بعلم لأنه يتعذر دحضه. فليس التحليل النفسي إلا نوعا من الممارسة سيدوم وجوده الوقت الذي يدومه. إنه ممارسة "ثرثرة" أو بدقة "رغي" ولا يوجد "رغي" بدون مخاطر. و"الرغي" يقرب الكلام من حالة سيل اللعاب و"التفتفة". غير أن هذا لا يمنع من القول أن التحليل النفسي له نتائجه وله معنى."[vi]

ويمكن القول أن التحليل النفسي هو ممارسة "ناجحة" كما يقول الفيلسوف "فيتجنشتاين" عن الفلسفة. فذلك لا يحرم لا الفلسفة ولا التحليل النفسي من أن يجدا لهما مكانة وسط المعارف. بل يمكن القول أيضا أن التحليل النفسي هو فن مثلما يقول المحلل النفسي الكبير وطبيب دراسة الأعصاب "سيرج لوكليير". إذ يقول : "إنه الفن الذي يمارس وظيفته حول اللامحسوس وغير المرئي وغير الملموس وحول الصمت والفراغ.. فموضوع التحليل النفسي هو الجهاز النفسي، الروح، وهو بذلك هش ومعرض للتدهور ككل فن."[vii]

ويذهب المحلل النفسي الفرنسي الكبير "أندريه جريين" إلى أبعد من ذلك في تعيين المكانة الصعبة للتحليل النفسي وسط العلوم الحديثة. فأندرية جرين يبدي تشاؤمه لعدم إقرار العلوم الجديدة لأسس التحليل النفسي وخاصة معارضة غالبية العلماء بعلوم دراسة بيولوجيا الجهاز العصبي وعلوم الادراك الحسي (أي تلك التي تعتبر عمل العقل مستندا على المعلومات التي يتم تحصيلها من الرؤية واللغة والحواس ويتم استيعابها وبعد ذلك تأت سلوكيات الانسان متسقة ونتيجة لتلك العملية المعقدة). فالمشكلة بحسب أندريه جريين تتجسد في العديد من الأمور لعل أهمها أن الحوار بين المحللين النفسيين والعلوم الأخرى محدود. إلا أن ذلك لا يستبعد أن يقوم علماء التحليل النفسي بخطوة من أجل هذا الحوار مستندين إلى الحالات العينية لعلاجهم فهي التي تمثل حجر الأساس في كل تقارب للاعتراف بالنظرية التي تقودهم في الممارسة. ويبدي "جريين" قناعته بضرورة الحوار والاقتراب من علماء البيولوجية مخالفا بذلك رأي زملائه. ويبرر ذلك بأنه لا يرى معنى في بناء نظرية في التحليل النفسي لا علاقة لها بالجسد والمعارف التي تتراكم حوله في العلوم التي تدرس البدن والعقل البشري. ويرى جريين أن استبعاد اللاوعي من قبل العلوم الحديثة يعود لعدم معرفتهم التامة بالتحليل النفسي.

فمن وجهة نظر جريين يوجد ما يمكن إخضاعه للمعرفة العلمية وغيره ما لا يمكن له أن يصبح موضوعا للمنهج العلمي التجريبي. فالموضوعية العلمية لا يمكن أن تطبق على الديانات والفكر التأملي الروحي ولا يمكن أن يتخذ العلم منها موقفا رافضا لأنها ليست موضوعا للعلم يمكن قياسه معمليا. وينتقد جريين محاولات بعض المحللين النفسيين للقول بعلمية التحليل النفسي باستخدام الرياضيات وربطها بمفاهيم علم النفس ليدافعوا عن مصداقية التحليل النفسي ويجد في ذلك انحرافا لا يفيد التحليل النفسي ولا يجعل منه علما.[viii]

من هذا التناول الموجز لإشكالية التحليل النفسي وسط العلوم الحديثة تبين أن القول بأن الإنسان لا يسيطر على أفعاله وأنها محكومة باللاوعي قول يحتاج للنظر إلى العلوم الأخرى لنرى ما الذي تقدمه كتفسير بديل. فهذه المقارنة سوف تكشف لنا أن الإنسان كائن معقد ولا يمكن لفرع واحد من فروع المعرفة الإدعاء بأنه يحمل وحدة الإجابة النهائية والقاطعة عليها



بقلم دكتور مصطفى نور الدين
[i] مدير تحرير مجلة دورية فرنسية للدراسات النفسية "نيسانس"
Naissances

[ii] Freud Sigmund, Une difficulté de la psychanalyse, In L’inquiétante étrangeté et autres essais, Gallimard, traduit de l’allemand par Bertrand Féron, Paris, 1985, pp. 177-187.

[iii] Popper Karl R., Conjectures et réfutations : la croissance du savoir scientifique, traduit de l’anglais par Michelle-Irène et Marc de Launay, Payot, Paris, 1985, p. 66.

[iv] Postel-Vinay Olivier, Que reste-t-il du refoulé freudien ?, in La recherche, numéro spécial, n° 366 juillet-août 2003, pp. 70-73.

[v] Freud S., Nouvelle suite des leçons d’introduction à la psychanalyse, in Oeuvres complètes, tome xix, (1931-1936), traduit de l’allemand par Janine Altounian et d’autres, PUF, Paris, 1995, p. 267

[vi] Lacan Jacques, Le moment de conclure, XXV- 1977-1978, Séminaire du 15 novembre 1977, Version rue CB

[vii] Leclaire Serge, Ecrits pour la psychanalyse, 1 Demeures d’ailleurs (1954-1993), Arcanes, Paris, 1996, pp. 348-49

[viii] Green André, Idées directrices pour une psychanalyse contemporaine, Puf, Paris, 2002, p. 261-337

Wednesday, April 18, 2012

ثورة الرعاع والحرافيش بين التاريخ والمؤرخين


 بقلم د.أحمد الصاوي


لطالما رمي الشعب المصري بأنه على مر تاريخه السرمدي أدمن الانصياع للحكام وبطشهم في "ذلة"  لا نظير لها في تاريخ الإنسانية اللهم إلا من هبات أو انتفاضات عارضة لا تلبث أن تنطفئ جذوتها بعد أيام قلائل دون أن تؤدي لإزالة ملك أو عزل حاكم. 

ويكاد هذا الاتهام أن يكون من المسلمات التي تحكم تفكير الساسة بل والمؤرخين عند تناولهم أمر الثورات في بر مصر والحقيقة أنه ليس أكثر من "وهم" غذته عوامل الإحباط واليأس من تدارك انهيار الأوضاع في البلاد في الأمد المنظور لحياة الإنسان الفرد بقدر ما كرسته مناهج كتابة التاريخ ليس في عصورنا الوسطى فحسب بل وفي الدراسات الأكاديمية والكتابات السيارة بعدما أصبحت الكتابة في التاريخ ,إلى حد بعيد, مهنة من لا مهنة له في العقود الأخيرة.

وإذا كانت بعض الدراسات التاريخية الجديرة بالثقة قد تناولت طرفا من أحداث الهبات والثورات التي عرفتها "مدينة القاهرة" لأسباب اقتصادية بشكل رئيس فإن كتب التاريخ ما برحت حافلة بالحديث عن عشرات مثلها حدثت ظاهريا لأسباب أخرى قد يراها البعض عارضة أو فئوية أو حتى غريبة ومستهجنة.      

ولا نريد هنا أن نحمل على "كتبة التاريخ" من المعاصرين بأكثر مما يحتملون إذ الحقيقة أيضا أن جانبا من المسئولية يقع على عاتق المؤرخين في العصور الوسطى ومناهجهم في تقييد الأحداث والسير التاريخية.

ومن نوافل القول هنا أن جل المؤرخين , ولا نقول كلهم, جاءوا من صفوف النخبة المدنية بل والعسكرية أيضا وعدد لا بأس به كان من مجتمعات أخرى وهو ما أضفى على عملهم أنواعا من الإهمال لشأن عامة الشعب أو الاستخفاف بهم ونلمح علامات هذا الاحتقار الاجتماعي فيما وصفوا به عامة الشعب من ألفاظ كالدهماء والزعار والعامة إلى آخره من مسميات تنم عن موقف اجتماعي مترفع ولا ننسى على سبيل المثال أن مؤرخا شهيرا مثل "ابن تغري بردي" وهو من أبناء المماليك كان يستخدم في كتابه النجوم الزاهرة مصطلح " أولاد الناس " للإشارة لأبناء المماليك وحدهم دون سواهم من "الناس".

وزيادة على ذلك فقد نظر المؤرخون القدامى لعملهم باعتباره محض سرد إما لسير الحكام أو في أفضل الأحوال للأحداث السياسية الكبرى ناهيك عن أن منهم من حرص على ألا يمس صورة الحاكم نفاقا أو حدبا وولاء .

وبالجملة وبغض النظر عن الدوافع الاستعلائية أو الانتقائية المنهجية لأحداث التاريخ فقد كان ينظر للثورات والهبات الشعبية باعتبارها أحداثا عارضا طالما لم تفض لتغيير جوهري في أوضاع الحكم أو الحكام فضلا عن الاقتصار على سرد ما قد يقع منها في إطار القاهرة وحدها أما ما كان يحدث في الأقاليم فغالبا ما وصف بأنه تمرد من الأعراب أو غيرهم من الفئات.

ولكن ذلك كله لا يعفي كتبة التاريخ من مسؤولياتهم المنهجية إذ رغم المنهجية التي تحكمت في كتابات مؤرخي العصور الوسطى تبقى بطون كتب التاريخ حافلة بإشارات لا تخفى على كل لبيب بالإشارة يفهم لثورات وانتفاضات شعبية قمعت بكل القسوة والبربرية وراح ضحيتها شهداء في وضح النهار.
وأظن , وبعض الظن إثم وبعضه ليس كذلك, أننا لو أحسنا التدقيق في النصوص التاريخية ولم نمر على بعضها مرورا عابرا أو انتقائيا لوجدنا عشرات من الوقائع الجلية والتي قد لا تحتاج لقراءة متعمقة لما هو بين السطور.

وزيادة على هذا وذاك فإنه من الضروري الواجب أن نخرج من إسار الصور النمطية التي نألفها في أيامنا تلك عن تعريف "الثورة" وقواها وآلياتها وقيادتها المنظمة وما إلى ذلك من معايير سياسية تفرضها الحداثة أو تمليها خطايا استلهام المدارس الأوربية في فهم التطور التاريخي للشعوب وهو أمر تجاوز الاسترشاد في أحوال كثيرة إلى شطط التقليد والمحاكاة غير المتبصرة بالفوارق المنهجية.
ونسوق هنا في حدود مقتضيات تحرير هذا المقال حدثا مخبئا بين ثنايا كتاب المؤرخ الكبير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي "السلوك في دول الملوك" ورغم أن ظاهر عنوانه أنه كتاب في التاريخ السياسي لدول الملوك وهو كذلك بدرجة رئيسة إلا أنه شأنه في ذلك شان كتابات المقريزي ,يحفل بإشارات عارضة ومكثفة لعدد من الهبات والثورات الشعبية .

ففي سرده لأحداث فترة حكم السلطان شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون وبالتحديد في يوم  الجمعة الموافق23 من شهر ذي القعدة من عام 770هـ يوضح أنه في صبيحة هذا اليوم تجمعت "الغوغاء من زعر العامة " بأراضي اللوق خارج القاهرة وكانت آنذاك من متنزهات القاهرة لا يسكنها أحد باعتبارها أراض يصلها فيضان النيل فتصير رخوة أو لوقا وكان تجمعهم "للشلاق" وهو في أغلب الظن نوع من رياضات القتال أو المنازلة التي يقبل الناس على مشاهدة أبطالها وحدث أن توفي أحد "المشالقين" وقت النزال فسمع بذلك والي القاهرة (السيد اللواء مدير أمن العاصمة) وهو "الشريف بكتمر" فأركب معه " الأمير علاء الدين علي بن كلفت الحاجب والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب" وقصد المشالقين ففروا منهم.

وحتى تلك اللحظة يبدو الأمر منطقيا ولا شبهة فيه لثورة أو شيء من هذا القبيل فقد فر المصارعون من مدير أمن العاصمة وأعوانه من "المباحث الجنائية" وهم المتهمون بقتل زميلهم أثناء النزال ولكن "بقي من هناك من النظارة" أي بلغة عصرنا لم يتزحزح الجمهور من (المدرجات) ويبدو أن بقاء هؤلاء دون أن يعتريهم الخوف الذي دفع المشالقين للفرار قد استفز الوالي والحاجبين فأردوا تفريقهم بالقوة على طريقة الأمن المركزي "فضرب منهم عدة بالمقارع ".

ورغم أن مصر لم تكن قد وقعت حتى تاريخه على اتفاقات حقوق الإنسان التي تمنع التعرض للعامة بالضرب لمجرد أنهم يشاهدون مباريات للمصارعة إلا أن تلك الواقعة أثارت غضبة الناس لامتهان والي القاهرة لكرامتهم الإنسانية وظل الأمر يتفاعل بين أهالي العاصمة حتى يوم الثلاثاء (ولم تكن هناك منتديات على الشبكة العنكبوتية) فأجمعوا أمرهم وخرجوا في مظاهرة أو حسب تعبير المقريزي " فتعصبت العامة" ووقفوا تحت القلعة حيث قصر السلطان ومقر الحكم معلنين احتجاجهم فلم يجبهم أحد فعادوا للتظاهر مرة أخرى في صباح الأربعاء "وهم يستغيثون ويصيحون بالشكوى من الوالي" ومن أسف أن المقريزي لم يكن معاصرا لتلك الأحداث وإلا لكان أورد لنا الهتافات التي أطلقت في تلك الاحتجاجات.

ولما رأت الحكومة إصرار العامة وأنهم قد يواصلون التظاهر لأيام أخرى خرج أليهم متحدث باسم الحكومة وأعلن لهم "أن السلطان يعزل عنكم هذا الوالي" ولكن الناس رفضوا تلك الترضية ورأوا ضرورة محاسبة الوالي والحاجبين ليس أمام قضاة المحاكم الشرعية أو المحكمة الجنائية الدولية ولكنهم " أبوا إلا أن يسلمه إليهم هو والحاجبين".
لقد أراد العامة أن ينفذوا حكما شعبيا تداولوا فيه من يوم الجمعة وهو القصاص من المعتدين وليس فقط مجرد عزلهم أو إيداعهم "سجن طره".

كانت هيبة الدولة هنا على المحك أو بالأحرى هيبة النخبة المملوكية المتحكمة في البلاد وثرواتها وهي ترى أن الشعب يوشك أن يفتك بأمير من "الناس" لم يفعل شيئا أكثر من ضرب بعض العامة بالمقارع وكان هذا الضرب حقا أصيلا للمماليك على الشعب.

وحدث أن الوالي تحرك راكبا إلى ديوان الحكم بالقلعة فاعترض المتظاهرون موكبه بالحجارة "فرجمته العامة حتى كاد يهلك".عندئذ لجأ مدير أمن القاهرة إلى الاصطبل حيث خيول المماليك (إدارة المركبات) وظل طيلة النهار محاصرا فيه والناس ترفض أن تبرح مكانها قبل أن تلقي القبض عليه والمفاوضات جارية إلى قرب العصر "وكلما أمروا أن يمضوا أبوا ولجوا "
.
ويظهر أن الوالي أخذته الحمية فاستعان بقوات من مماليك مسئول الاصطبل "الأمير بكتمر المؤمني آمير آخور" واللقب الأخير يعني المسئول عن الاصطبلات السلطانية وخرج من مكمنه المحاصر فيه لتفريق المتظاهرين بالقوة " فثارت العامة ورجمتهم رجما متداركا حتى كسروهم كسرة قبيحة".
فشل الهجوم ودحرت قوات الوالي ومعها مماليك الاصطبلات وأصبحت "شرطة القاهرة" عاجزة عن تدارك ثورة العامة أمام القلعة وعندئذ صدرت الأوامر للحرس السلطاني (الجمهوري!!) لتفريق المتظاهرين بالقوة الغاشمة "فركبت المماليك السلطانية و الأوجاقية وحملوا على العامة وقتلوا منهم جماعة وقبضوا على خلائق منهم".

وعلى طريقة المستبدين بالذهاب إلى "التأديب" بعد القمع نزعا للثورة من النفوس لم يكتف المماليك بضحايا التظاهرة تحت القلعة بل أردوا تأديب سكان العاصمة كلها لأن المظاهرات كانت حاشدة كما يبدو من وصف المقريزي.

جاء الانتقام شاملا ووحشيا ولعل القلم يعجز عن التدخل لإعادة صياغة ما جرى بذات الدقة والبلاغة التي حرر بها المقريزي الأحداث في يوم الأربعاء 28 ذي القعدة عام 770هـ إذ قال لا فض فوه " ركب الأمير ألجاي اليوسفي وقسم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك وأمرهم بوضع السيف في الناس فجرت خطوب شنيعة قتل فيها خلائق ذهبت دماؤهم هدرا وأودعت السجون منهم طوائف وامتدت أيدي الجند إلى العامة حتى أنه كان الجندي يدخل على حانوت البياع من المتعيشين ويذبحه ويمضي وحكى بعضهم أنه قتل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلا".

كانت ليلة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة "من ليالي السوء" والتعبير هنا للمقريزي فلما أصبح الخميس وبلغ السلطان ما جرى "أنكره" أي أدانه وشجبه وأمر السلطان شعبان بن حسين بالإفراج عن المسجونين ونودي بالأمان وفتح الأسواق ففتحت وتم تعيين الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني في ولاية القاهرة عوضا عن الشريف بكتمر.

أما بكتمر المؤمني أمير الاصطبلات السلطانية الذي فتح باب العنف  ضد المتظاهرين فقد "وبخه " السلطان وقال له "عجلت بالأضحية على الناس وتوعده" أي أنه استبق عيد الأضحى بقتل الناس فما كان من بكتمر إلا أن "رجف فؤاده ونحب قلبه وقام فلم يزل صاحب فراش حتى مات".
حسنا مات بكتمر في سريره أو حتى في سرير مستشفى السجن أو ليس اليوم أشد شبها بالبارحة مما نتخيل.

أو لم نقل يخطئ المؤرخون أما التاريخ فلا يفعل.


بقلم دكتوراحمد الصاوى
العدد الأول - إبريل 2012

مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة