Wednesday, May 23, 2012

الإنسان بين المسئولية والضرورة

الإرادة .. الوهم  

بقلم دكتور مصطفى نور الدين  



هو سؤال قديم حول الفعل الإنسانى، طرحته البشرية عبر العصور فى صيغة " الجبر واللاختيار" و "القضاء والقدر".. هل الانسان هو مالك القرار وصاحب الفعل، أم أن هناك قوانين طبيعية ونفسية واجتماعية تلزمه بالتصرف على هذا النحو دون أن تترك له خيارا آخر، فهو يعمل على نحو قسرى، وأفعاله تحتمها قوانين مقدرة سلفا مثلها مثل القوانين الطبيعية التى تحتم سقوط الأمطار وهبوب الرياح؟

قدمت الأديان والفلسفات إجاباتها عبر العصور، وحاولت العلوم الحديثة أن تكون لها كلمة. ونحاول عبر حلقات هذا المقال أن نقدم بإيجاز اسهامات كل علم على حدة فى حل ألغاز هذه القضية الشائكة.

هل نحن مذنبون أم مسئولون أم ضحايا ؟ هذا الأسلوب في التطرق للموضوع يلوح مثيرا غير أنه مما لا شك فيه أن الإنسان يسأل ويطرح السؤال على نفسه حول سلوكه ودوافعه وحول الأسباب التي جعلته اليوم ما هو عليه وعن تحوله ليصبح آخر عبر الزمن بحيث يجد نفسه أحيانا لا يكاد يتعرف على ذاته وعلى ضميره نفسه في مواقف متنوعة في حياته. هل من إجابة ممكنة على تلك التساؤلات ؟

ليست قضيتنا في هذه السطور إلقاء نظرة شاملة على الإنسان في المجتمع بما يحيطه من أسباب تدفع لفعل ما. الذي نتقصاه هو الإنسان من داخله ككائن وهل هناك ما هو غير منظور للعين يقف خلف السلوك بكل أنواعه. ولذا يلزمنا ارتياد المعارف التي حاول فيها العلماء والفلاسفة البحث عن إجابة. أي زيارة تلك المعارف التي بحثت في النفس وفي الجسد في العلوم الحديثة. هذا السبيل محفوف بالمخاطر نظرا لاستحالة الإلمام بكل التفاصيل. والحل الممكن هو التوقف عند بعض التحليلات الهامة والتي لها وزنها في الفكر في دراسة هذه القضايا. أي عدم إدعاء تقديم نظرة شاملة وإنما التعرض للقضايا التي تفتح الباب للتفكير. وبناء على هذا الاختيار نتطرق للخطوط العريضة مع ضرورة التنويه بأن النظرة الذاتية في القضية لا مهرب منها مهما توخينا الموضوعية. فبهذا الطريق تحدث المواجهة بين الأفكار وتثرى.

وسوف نتوقف في هذا المقال الأول عند التحليل النفسي فقط وبالمرجعية لمصطلح واحد وهو "اللاوعي". هذا قليل، ولكنه مصطلح هام وضروري لتتم مواجهة بينه مع علوم مثل دراسة السلوك المستندة إلى علم الوراثة أو دراسة الشخصية بداية من عمل خلايا الأعصاب والأنسجة العصبية وغير ذلك من علوم حديثة تتقدم كل يوم لتكشف لنا أسرارا لم تكن معروفه قبل تقدم التقنيات الحديثة التي تسبر أغوار الجسد والمخ.

والمواجهة بين تصورات لا تعني بالضرورة أن يكون لتصور ما الغلبة على التصورات الأخرى. فالمسألة من هذه المواجهة هي متابعة جهود الإنسان لفهم ذاته ولفهم الآخر، وفتح الحوار بينها لرؤية وتتبع كيف يرسم الإنسان مستقبله بين الحلم والممكنات والمخاطر الاحتمالية.

يقول سيجموند فرويد :"إن الإنسان لا يملك السيطرة على نفسه، فاللاوعي هو الذي يقودونا." ويلخص نظريته بالقول إن "ثلاثة أشياء كبرى نكدت على الإنسان. أول المنكدات ذات طابع كوني بكشف "كوبرنيكوس" أن الأرض أصغر من الشمس وتدور حولها. والثانية بيولوجية عندما قال "دارون" : "أن الإنسان ليس أفضل من الحيوانات وأنه ذاته ينحدر من سلالة منها وتربطه علاقة قرابة لصيقة ببعض من أنواعها". غير أن أكثر المنكدات ألما كانت دون شك التي لحقت بطبيعته النفسية، فالتحليل النفسي يؤكد على أنه برغم كل ما يسود من مظاهر ومعتقدات فإن الإنسان أو "الأنا ليس سيدا في منزله وأنه لم يكن أبدا المسيطر على نفسه."[ii]

تلك النظرة تستلزم التوقف عند التحليل النفسي كفرع من فروع المعرفة والحدود التي يملكها لتسمح له بالقول بمثل تلك الفكرة القطعية حول السر خلف السلوك الإنساني أيا كان هذا السلوك. ولكي نحدد تلك الحدود يلزم أن نرى ما تقوله العلوم الأخرى حول التحليل النفسي وكذلك ما يقوله علماء التحليل النفسي.

كانت فلسفة العلوم من أول من ناقش نظريات التحليل النفسي بموضوعية فكتب العالم "كارل بوبير" مطولا ووضع تحفظات عليها بقوله :"فيما يخص نظريات التحليل النفسي يستحيل ببساطة وضعها موضع اختبار وكذا لا يمكن دحضها. فليس هناك أي سلوك بشري يمكن أن يتناقض معها. وهذا ليس معناه أن اسهامات كل من "فرويد" و"ادلر" خالية من تمثل فعلي لبعض الظواهر. وأنا على يقين من أن قسما كبيرا مما يقولون به حاسم وسيكون له مكانة لاحقا في علم نفس علمي يخضع للاختبار والقياس."[iii]

أما فيلسوف العلوم "ادولف جرونبروم" فيتخذ موقفا معارضا لتلك الأطروحة ويقول بأن التحليل النفسي ما هو إلا علاج وهمي بديل ويبلور رأيه بعبارته : "ليس هناك ما يمنع اعتبار جلسات التحليل النفسي ناجعة مثلما هو الحال بالشفاء بتناول دواء بديل يخلو من المواد الفاعلة." (يمكن الاستشهاد بالتجارب التي تجرى على عينتين من المرضى يعانون الداء نفسه. فبدون معرفتهما يتناول بعض الأفراد الدواء الفعلي لهذا الداء بينما يتناول البعض الأخر ما يقال لهم بأنه دواء وهو في الحقيقة لا تأثير له ولا يدخل في مكوناته مواد لعلاج أي مرض. ولكن لكل من الدوائيين ذات الشكل والطعم. فإذا شفي المريض من الدواء الوهمي يقال ان العامل النفسي والإيحاء هو سبب الشفاء.)

ويستمر جرونبروم بمعارضة فكرة العالم بوبير فيقول بأن التحليل النفسي يمكن التحقق من صحة أو عدم صحة ما يقول به " فأطروحات فرويد لها سمات تنبؤية وبالتالي يمكن التحقق من حدوث ما قالت به من عدم حدوثه." [iv]

هل يعني هذا نهاية التحليل النفسي ؟ سبق أن سمعنا عن نهايات أخرى ؟ نهاية التاريخ، نهاية الأدب، نهاية الفن، نهاية الإيديولوجية بل ونهاية العالم ! تساؤلات وغياب لليقين. عدم يقين بشأن نهاية ما لأن التساؤلات تستمر دون انقطاع. فالتناقضات لدى الإنسان تتجسد في اعتقاده بسهولة أكثر في كل ما يعتبر ظاهرة متعالية تنسب للأديان بينما يشك بما يقوله أمثاله من البشر حتى ولو تميز بعمق وخبرة طويلة في الممارسة.

ولكن تلك الخلافات والنقاش قديم وتستمر حول التحليل النفسي والتساؤل بهل هو علم يمكن الاستناد إليه في فهم الكيفية التي تعمل بها مشاعر الإنسان وإدراك أنماط سلوكه وكيف يتوصل لإيجاد الحلول للمشاكل التي لا تنتهي في عالم يموج بدوامة من التغيرات المادية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. فلا يمكن القول بأن كل شيء انتهي. إذ لو كانت المعرفة بالإنسان محاصرة من أمام ومن خلف ومن الجانبين فكيف نتوصل لإيضاح أفعاله وفهم مشاعره ودوافعه وأحكامه في الحياة ؟

ربما ما عقد مشاكل التحليل النفسي هو عدم اكتفائه بالدور العلاجي لمن يعانون من أمراض نفسية بتعميمه والنظر لأطروحاته كما لو كانت صالحة للتطبيق على الإنسان في كل ظرف حياتي وفي كل مكان. إذ حاولت بعض تيارات التحليل النفسي تجاوز حصره في جلسات علاجية فردية وقامت بتقديم تفسيرات للطبيعة الإنسانية بشكل عام وفي كل العصور. وهو مشروع عصيب على فرع واحد من فروع المعرفة التي يزداد تعقدها يوما بعد يوم. والملاحظ أن سيجموند فرويد تحفظ في بدايات حياته بعدم الدخول في تلك المغامرة التي تجعل التحليل النفسى علما مهيمنا يفرض نظرته على المعارف الأخرى التي تبحث في الإنسان. وكتب فرويد حينئذ: "إن التحليل النفسي بحسب ما أراه غير قادر على خلق رؤية للعالم تخصه وحده. وهو لا يحتاج لتلك الرؤية فهو مجرد فرع من العلوم وما يمكن هو أن يتكامل في رؤية مع كل العلوم. غير أن هذه النظرة لا تستحق التضخيم لأنها ليست رؤية بتاتا وإنما رؤية غير كاملة فهي لا تدعى إغلاق الأبواب في تشكل النظام. فالتفكير العلمي مازال يافعا والمشكلات الكبرى، وما أكثرها، لم يتم السيطرة عليها."[v]

وبرغم هذا التصريح فإن كتابات فرويد الأخيرة شهدت محاولة لبلورة نظرة كلية عن العالم من منظور التحليل النفسي مثلما تجلى ذلك في كتبه :"مستقبل وهم" و"قلق فى الحضارة" و" الطوطم والحرام" و"موسى والتوحيد". وتتابع هذا التوجه عند العديد من علماء التحلل النفسي مثل "فيلهيلم رايش" و"إريك فروم" وغيرهما.

غير أن الحد من القيمة العلمية للتحليل النفسي تأخذ قوتها عندما تأتى من أكبر ممثليها المعاصرين. فكلمات صاحب أكبر مدرسة فرنسية في التحليل النفسي "جاك لاكان" تفيد هنا في تحديده للتحليل النفسي وموقعه من المعارف التي تبحث في الإنسان. يقول "جاك لاكان" في أحد محاضراته : "ما سأقوله لكم سوف أقوله وهو أنه يلزم النظر للتحليل النفسي بجدية برغم أنه ليس بعلم. بل أن ليس علما على الإطلاق لأن المزعج في ذلك أنه تم البرهنة عليه بوضوح وبكتابات غزيرة المدعو "كارل بوبير". فهو ليس بعلم لأنه يتعذر دحضه. فليس التحليل النفسي إلا نوعا من الممارسة سيدوم وجوده الوقت الذي يدومه. إنه ممارسة "ثرثرة" أو بدقة "رغي" ولا يوجد "رغي" بدون مخاطر. و"الرغي" يقرب الكلام من حالة سيل اللعاب و"التفتفة". غير أن هذا لا يمنع من القول أن التحليل النفسي له نتائجه وله معنى."[vi]

ويمكن القول أن التحليل النفسي هو ممارسة "ناجحة" كما يقول الفيلسوف "فيتجنشتاين" عن الفلسفة. فذلك لا يحرم لا الفلسفة ولا التحليل النفسي من أن يجدا لهما مكانة وسط المعارف. بل يمكن القول أيضا أن التحليل النفسي هو فن مثلما يقول المحلل النفسي الكبير وطبيب دراسة الأعصاب "سيرج لوكليير". إذ يقول : "إنه الفن الذي يمارس وظيفته حول اللامحسوس وغير المرئي وغير الملموس وحول الصمت والفراغ.. فموضوع التحليل النفسي هو الجهاز النفسي، الروح، وهو بذلك هش ومعرض للتدهور ككل فن."[vii]

ويذهب المحلل النفسي الفرنسي الكبير "أندريه جريين" إلى أبعد من ذلك في تعيين المكانة الصعبة للتحليل النفسي وسط العلوم الحديثة. فأندرية جرين يبدي تشاؤمه لعدم إقرار العلوم الجديدة لأسس التحليل النفسي وخاصة معارضة غالبية العلماء بعلوم دراسة بيولوجيا الجهاز العصبي وعلوم الادراك الحسي (أي تلك التي تعتبر عمل العقل مستندا على المعلومات التي يتم تحصيلها من الرؤية واللغة والحواس ويتم استيعابها وبعد ذلك تأت سلوكيات الانسان متسقة ونتيجة لتلك العملية المعقدة). فالمشكلة بحسب أندريه جريين تتجسد في العديد من الأمور لعل أهمها أن الحوار بين المحللين النفسيين والعلوم الأخرى محدود. إلا أن ذلك لا يستبعد أن يقوم علماء التحليل النفسي بخطوة من أجل هذا الحوار مستندين إلى الحالات العينية لعلاجهم فهي التي تمثل حجر الأساس في كل تقارب للاعتراف بالنظرية التي تقودهم في الممارسة. ويبدي "جريين" قناعته بضرورة الحوار والاقتراب من علماء البيولوجية مخالفا بذلك رأي زملائه. ويبرر ذلك بأنه لا يرى معنى في بناء نظرية في التحليل النفسي لا علاقة لها بالجسد والمعارف التي تتراكم حوله في العلوم التي تدرس البدن والعقل البشري. ويرى جريين أن استبعاد اللاوعي من قبل العلوم الحديثة يعود لعدم معرفتهم التامة بالتحليل النفسي.

فمن وجهة نظر جريين يوجد ما يمكن إخضاعه للمعرفة العلمية وغيره ما لا يمكن له أن يصبح موضوعا للمنهج العلمي التجريبي. فالموضوعية العلمية لا يمكن أن تطبق على الديانات والفكر التأملي الروحي ولا يمكن أن يتخذ العلم منها موقفا رافضا لأنها ليست موضوعا للعلم يمكن قياسه معمليا. وينتقد جريين محاولات بعض المحللين النفسيين للقول بعلمية التحليل النفسي باستخدام الرياضيات وربطها بمفاهيم علم النفس ليدافعوا عن مصداقية التحليل النفسي ويجد في ذلك انحرافا لا يفيد التحليل النفسي ولا يجعل منه علما.[viii]

من هذا التناول الموجز لإشكالية التحليل النفسي وسط العلوم الحديثة تبين أن القول بأن الإنسان لا يسيطر على أفعاله وأنها محكومة باللاوعي قول يحتاج للنظر إلى العلوم الأخرى لنرى ما الذي تقدمه كتفسير بديل. فهذه المقارنة سوف تكشف لنا أن الإنسان كائن معقد ولا يمكن لفرع واحد من فروع المعرفة الإدعاء بأنه يحمل وحدة الإجابة النهائية والقاطعة عليها



بقلم دكتور مصطفى نور الدين
[i] مدير تحرير مجلة دورية فرنسية للدراسات النفسية "نيسانس"
Naissances

[ii] Freud Sigmund, Une difficulté de la psychanalyse, In L’inquiétante étrangeté et autres essais, Gallimard, traduit de l’allemand par Bertrand Féron, Paris, 1985, pp. 177-187.

[iii] Popper Karl R., Conjectures et réfutations : la croissance du savoir scientifique, traduit de l’anglais par Michelle-Irène et Marc de Launay, Payot, Paris, 1985, p. 66.

[iv] Postel-Vinay Olivier, Que reste-t-il du refoulé freudien ?, in La recherche, numéro spécial, n° 366 juillet-août 2003, pp. 70-73.

[v] Freud S., Nouvelle suite des leçons d’introduction à la psychanalyse, in Oeuvres complètes, tome xix, (1931-1936), traduit de l’allemand par Janine Altounian et d’autres, PUF, Paris, 1995, p. 267

[vi] Lacan Jacques, Le moment de conclure, XXV- 1977-1978, Séminaire du 15 novembre 1977, Version rue CB

[vii] Leclaire Serge, Ecrits pour la psychanalyse, 1 Demeures d’ailleurs (1954-1993), Arcanes, Paris, 1996, pp. 348-49

[viii] Green André, Idées directrices pour une psychanalyse contemporaine, Puf, Paris, 2002, p. 261-337

No comments:

Post a Comment