Wednesday, April 18, 2012

ثورة الرعاع والحرافيش بين التاريخ والمؤرخين


 بقلم د.أحمد الصاوي


لطالما رمي الشعب المصري بأنه على مر تاريخه السرمدي أدمن الانصياع للحكام وبطشهم في "ذلة"  لا نظير لها في تاريخ الإنسانية اللهم إلا من هبات أو انتفاضات عارضة لا تلبث أن تنطفئ جذوتها بعد أيام قلائل دون أن تؤدي لإزالة ملك أو عزل حاكم. 

ويكاد هذا الاتهام أن يكون من المسلمات التي تحكم تفكير الساسة بل والمؤرخين عند تناولهم أمر الثورات في بر مصر والحقيقة أنه ليس أكثر من "وهم" غذته عوامل الإحباط واليأس من تدارك انهيار الأوضاع في البلاد في الأمد المنظور لحياة الإنسان الفرد بقدر ما كرسته مناهج كتابة التاريخ ليس في عصورنا الوسطى فحسب بل وفي الدراسات الأكاديمية والكتابات السيارة بعدما أصبحت الكتابة في التاريخ ,إلى حد بعيد, مهنة من لا مهنة له في العقود الأخيرة.

وإذا كانت بعض الدراسات التاريخية الجديرة بالثقة قد تناولت طرفا من أحداث الهبات والثورات التي عرفتها "مدينة القاهرة" لأسباب اقتصادية بشكل رئيس فإن كتب التاريخ ما برحت حافلة بالحديث عن عشرات مثلها حدثت ظاهريا لأسباب أخرى قد يراها البعض عارضة أو فئوية أو حتى غريبة ومستهجنة.      

ولا نريد هنا أن نحمل على "كتبة التاريخ" من المعاصرين بأكثر مما يحتملون إذ الحقيقة أيضا أن جانبا من المسئولية يقع على عاتق المؤرخين في العصور الوسطى ومناهجهم في تقييد الأحداث والسير التاريخية.

ومن نوافل القول هنا أن جل المؤرخين , ولا نقول كلهم, جاءوا من صفوف النخبة المدنية بل والعسكرية أيضا وعدد لا بأس به كان من مجتمعات أخرى وهو ما أضفى على عملهم أنواعا من الإهمال لشأن عامة الشعب أو الاستخفاف بهم ونلمح علامات هذا الاحتقار الاجتماعي فيما وصفوا به عامة الشعب من ألفاظ كالدهماء والزعار والعامة إلى آخره من مسميات تنم عن موقف اجتماعي مترفع ولا ننسى على سبيل المثال أن مؤرخا شهيرا مثل "ابن تغري بردي" وهو من أبناء المماليك كان يستخدم في كتابه النجوم الزاهرة مصطلح " أولاد الناس " للإشارة لأبناء المماليك وحدهم دون سواهم من "الناس".

وزيادة على ذلك فقد نظر المؤرخون القدامى لعملهم باعتباره محض سرد إما لسير الحكام أو في أفضل الأحوال للأحداث السياسية الكبرى ناهيك عن أن منهم من حرص على ألا يمس صورة الحاكم نفاقا أو حدبا وولاء .

وبالجملة وبغض النظر عن الدوافع الاستعلائية أو الانتقائية المنهجية لأحداث التاريخ فقد كان ينظر للثورات والهبات الشعبية باعتبارها أحداثا عارضا طالما لم تفض لتغيير جوهري في أوضاع الحكم أو الحكام فضلا عن الاقتصار على سرد ما قد يقع منها في إطار القاهرة وحدها أما ما كان يحدث في الأقاليم فغالبا ما وصف بأنه تمرد من الأعراب أو غيرهم من الفئات.

ولكن ذلك كله لا يعفي كتبة التاريخ من مسؤولياتهم المنهجية إذ رغم المنهجية التي تحكمت في كتابات مؤرخي العصور الوسطى تبقى بطون كتب التاريخ حافلة بإشارات لا تخفى على كل لبيب بالإشارة يفهم لثورات وانتفاضات شعبية قمعت بكل القسوة والبربرية وراح ضحيتها شهداء في وضح النهار.
وأظن , وبعض الظن إثم وبعضه ليس كذلك, أننا لو أحسنا التدقيق في النصوص التاريخية ولم نمر على بعضها مرورا عابرا أو انتقائيا لوجدنا عشرات من الوقائع الجلية والتي قد لا تحتاج لقراءة متعمقة لما هو بين السطور.

وزيادة على هذا وذاك فإنه من الضروري الواجب أن نخرج من إسار الصور النمطية التي نألفها في أيامنا تلك عن تعريف "الثورة" وقواها وآلياتها وقيادتها المنظمة وما إلى ذلك من معايير سياسية تفرضها الحداثة أو تمليها خطايا استلهام المدارس الأوربية في فهم التطور التاريخي للشعوب وهو أمر تجاوز الاسترشاد في أحوال كثيرة إلى شطط التقليد والمحاكاة غير المتبصرة بالفوارق المنهجية.
ونسوق هنا في حدود مقتضيات تحرير هذا المقال حدثا مخبئا بين ثنايا كتاب المؤرخ الكبير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي "السلوك في دول الملوك" ورغم أن ظاهر عنوانه أنه كتاب في التاريخ السياسي لدول الملوك وهو كذلك بدرجة رئيسة إلا أنه شأنه في ذلك شان كتابات المقريزي ,يحفل بإشارات عارضة ومكثفة لعدد من الهبات والثورات الشعبية .

ففي سرده لأحداث فترة حكم السلطان شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون وبالتحديد في يوم  الجمعة الموافق23 من شهر ذي القعدة من عام 770هـ يوضح أنه في صبيحة هذا اليوم تجمعت "الغوغاء من زعر العامة " بأراضي اللوق خارج القاهرة وكانت آنذاك من متنزهات القاهرة لا يسكنها أحد باعتبارها أراض يصلها فيضان النيل فتصير رخوة أو لوقا وكان تجمعهم "للشلاق" وهو في أغلب الظن نوع من رياضات القتال أو المنازلة التي يقبل الناس على مشاهدة أبطالها وحدث أن توفي أحد "المشالقين" وقت النزال فسمع بذلك والي القاهرة (السيد اللواء مدير أمن العاصمة) وهو "الشريف بكتمر" فأركب معه " الأمير علاء الدين علي بن كلفت الحاجب والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب" وقصد المشالقين ففروا منهم.

وحتى تلك اللحظة يبدو الأمر منطقيا ولا شبهة فيه لثورة أو شيء من هذا القبيل فقد فر المصارعون من مدير أمن العاصمة وأعوانه من "المباحث الجنائية" وهم المتهمون بقتل زميلهم أثناء النزال ولكن "بقي من هناك من النظارة" أي بلغة عصرنا لم يتزحزح الجمهور من (المدرجات) ويبدو أن بقاء هؤلاء دون أن يعتريهم الخوف الذي دفع المشالقين للفرار قد استفز الوالي والحاجبين فأردوا تفريقهم بالقوة على طريقة الأمن المركزي "فضرب منهم عدة بالمقارع ".

ورغم أن مصر لم تكن قد وقعت حتى تاريخه على اتفاقات حقوق الإنسان التي تمنع التعرض للعامة بالضرب لمجرد أنهم يشاهدون مباريات للمصارعة إلا أن تلك الواقعة أثارت غضبة الناس لامتهان والي القاهرة لكرامتهم الإنسانية وظل الأمر يتفاعل بين أهالي العاصمة حتى يوم الثلاثاء (ولم تكن هناك منتديات على الشبكة العنكبوتية) فأجمعوا أمرهم وخرجوا في مظاهرة أو حسب تعبير المقريزي " فتعصبت العامة" ووقفوا تحت القلعة حيث قصر السلطان ومقر الحكم معلنين احتجاجهم فلم يجبهم أحد فعادوا للتظاهر مرة أخرى في صباح الأربعاء "وهم يستغيثون ويصيحون بالشكوى من الوالي" ومن أسف أن المقريزي لم يكن معاصرا لتلك الأحداث وإلا لكان أورد لنا الهتافات التي أطلقت في تلك الاحتجاجات.

ولما رأت الحكومة إصرار العامة وأنهم قد يواصلون التظاهر لأيام أخرى خرج أليهم متحدث باسم الحكومة وأعلن لهم "أن السلطان يعزل عنكم هذا الوالي" ولكن الناس رفضوا تلك الترضية ورأوا ضرورة محاسبة الوالي والحاجبين ليس أمام قضاة المحاكم الشرعية أو المحكمة الجنائية الدولية ولكنهم " أبوا إلا أن يسلمه إليهم هو والحاجبين".
لقد أراد العامة أن ينفذوا حكما شعبيا تداولوا فيه من يوم الجمعة وهو القصاص من المعتدين وليس فقط مجرد عزلهم أو إيداعهم "سجن طره".

كانت هيبة الدولة هنا على المحك أو بالأحرى هيبة النخبة المملوكية المتحكمة في البلاد وثرواتها وهي ترى أن الشعب يوشك أن يفتك بأمير من "الناس" لم يفعل شيئا أكثر من ضرب بعض العامة بالمقارع وكان هذا الضرب حقا أصيلا للمماليك على الشعب.

وحدث أن الوالي تحرك راكبا إلى ديوان الحكم بالقلعة فاعترض المتظاهرون موكبه بالحجارة "فرجمته العامة حتى كاد يهلك".عندئذ لجأ مدير أمن القاهرة إلى الاصطبل حيث خيول المماليك (إدارة المركبات) وظل طيلة النهار محاصرا فيه والناس ترفض أن تبرح مكانها قبل أن تلقي القبض عليه والمفاوضات جارية إلى قرب العصر "وكلما أمروا أن يمضوا أبوا ولجوا "
.
ويظهر أن الوالي أخذته الحمية فاستعان بقوات من مماليك مسئول الاصطبل "الأمير بكتمر المؤمني آمير آخور" واللقب الأخير يعني المسئول عن الاصطبلات السلطانية وخرج من مكمنه المحاصر فيه لتفريق المتظاهرين بالقوة " فثارت العامة ورجمتهم رجما متداركا حتى كسروهم كسرة قبيحة".
فشل الهجوم ودحرت قوات الوالي ومعها مماليك الاصطبلات وأصبحت "شرطة القاهرة" عاجزة عن تدارك ثورة العامة أمام القلعة وعندئذ صدرت الأوامر للحرس السلطاني (الجمهوري!!) لتفريق المتظاهرين بالقوة الغاشمة "فركبت المماليك السلطانية و الأوجاقية وحملوا على العامة وقتلوا منهم جماعة وقبضوا على خلائق منهم".

وعلى طريقة المستبدين بالذهاب إلى "التأديب" بعد القمع نزعا للثورة من النفوس لم يكتف المماليك بضحايا التظاهرة تحت القلعة بل أردوا تأديب سكان العاصمة كلها لأن المظاهرات كانت حاشدة كما يبدو من وصف المقريزي.

جاء الانتقام شاملا ووحشيا ولعل القلم يعجز عن التدخل لإعادة صياغة ما جرى بذات الدقة والبلاغة التي حرر بها المقريزي الأحداث في يوم الأربعاء 28 ذي القعدة عام 770هـ إذ قال لا فض فوه " ركب الأمير ألجاي اليوسفي وقسم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك وأمرهم بوضع السيف في الناس فجرت خطوب شنيعة قتل فيها خلائق ذهبت دماؤهم هدرا وأودعت السجون منهم طوائف وامتدت أيدي الجند إلى العامة حتى أنه كان الجندي يدخل على حانوت البياع من المتعيشين ويذبحه ويمضي وحكى بعضهم أنه قتل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلا".

كانت ليلة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة "من ليالي السوء" والتعبير هنا للمقريزي فلما أصبح الخميس وبلغ السلطان ما جرى "أنكره" أي أدانه وشجبه وأمر السلطان شعبان بن حسين بالإفراج عن المسجونين ونودي بالأمان وفتح الأسواق ففتحت وتم تعيين الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني في ولاية القاهرة عوضا عن الشريف بكتمر.

أما بكتمر المؤمني أمير الاصطبلات السلطانية الذي فتح باب العنف  ضد المتظاهرين فقد "وبخه " السلطان وقال له "عجلت بالأضحية على الناس وتوعده" أي أنه استبق عيد الأضحى بقتل الناس فما كان من بكتمر إلا أن "رجف فؤاده ونحب قلبه وقام فلم يزل صاحب فراش حتى مات".
حسنا مات بكتمر في سريره أو حتى في سرير مستشفى السجن أو ليس اليوم أشد شبها بالبارحة مما نتخيل.

أو لم نقل يخطئ المؤرخون أما التاريخ فلا يفعل.


بقلم دكتوراحمد الصاوى
العدد الأول - إبريل 2012

مجلة المجلة - سجل الثقافة الرفيعة 

No comments:

Post a Comment